الحجاب الإسلاميّ
حقوق وحرية وحجاب
نبدأ هذا البحث من القرآن الكريم. وقد جاءت الآيات المتعلِّقة بهذا الموضوع في سورتين من القرآن إحداهما سورة النور، والأخرى سورة الأحزاب.
عدد الزوار: 295
الحجاب في القرآن
نبدأ هذا البحث من القرآن الكريم. وقد جاءت الآيات المتعلِّقة بهذا الموضوع في سورتين من القرآن إحداهما سورة النور، والأخرى سورة الأحزاب. ونحن هنا نأتي على تفسير الآيات، ثُمّ نعكف على بيان بعض المسائل الفقهيّة، وعرض الروايات، ونقل فتاوى الفقهاء.
الآية المتعلِّقة بموضوع بحثنا من سورة النور هي الآية (31)، الّتي تسبقها عدّة آيات تستعرض مسؤوليّة الاستئذان للدخول إلى المنازل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
العين والبصر:استعملت الآية - أعلاه - كلمة "الأبصار" التي هي جمع "البصر". وهناك فرق في الدلالة بين كلمة "بصر" وكلمة "عين". فكلاهما يُطلق على العضو الباصر، غير أنّ كلمة "عين" تُطلق دون أنْ تتضمّن دلالة على الإبصار، في حين أنّ كلمة "بصر" تتضمّن فعل الإبصار.وحيث إنّ هدف الآية يتعلّق بفعل العين الذي هو "البصر"، استخدمت الآية كلمة "الأبصار" لا "العيون".
الغض والغمض:استعملت الآية كلمة أخرى، وهي "يغضّوا" ومادّتها "الغضّ". ولم تستخدم الآية كلمة "غمض" الّتي تُستخدم عادة في مورد العين. وهناك من لا يُفرّق بين مدلول الكلمتين. يلزمنا هنا أنْ نفرّق بين معنى هاتين الكلمتين:الغمض يعني إطباق الجفون، أغمض عينه، أي أطبق عليها جفنيه. والمُلاحَظ أنّ كلمة "غمض" تُستخدم مع "العين". أمّا " غضّ" فتُستعمل مع البصر والنظر والطرف عادةً. والغضّ يعني تخفيف النظر، وقد جاء استعمال هذه المُفرَدة في القرآن الكريم في موردين:
الآية (19) من سورة لقمان، حيث يقول في وصيّة لقمان لابنه: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾، والآية (3) من سورة الحجرات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾.
وجاء استعمالها في حديث هند بن أبي هالة المعروف في ذكر شمائل وصفات النبيِّ صلى الله عليه واله وسلم : "وإذا فرح غضّ طرفه".
ويُفسّر المجلسيُّ جملة "غضّ" في بحار الأنوار، ويقول: "أي كسره وأطرق ولم يفتح عينه، وإنّما يفعل ذلك ليكون أبعد من الأشر والمرح...".
وقد جاء استخدام الكلمة في وصيّة الإمام عليّ عليه السلام لابنه محمّد ابن الحنفيّة حيث يقول: "تزول الجبال ولا تزل: عضّ على ناجذك. أعِر الله جمجمتك. تِدْ في الأرض قدمك. ارم ببصرك أقصى القوم، وغضّ بصرك"1.
وجاء استخدامها لدى الإمام عليه السلام في وصيّته لأصحابه أثناء الحرب، إذ يقول: "غضّوا الأبصار، فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل..."2.
يُفهم من مجموع موارد الاستعمال المتقدِّمة أنّ معنى الغضّ هو: خفض النظر، واجتناب التركيز به، ومتابعته، أي أنْ لا يقع النظر بشكل استقلاليّ.
يقول صاحب مجمع البيان في التعقيب على الآية مورد البحث:
"أصل الغضّ النقصان، يُقال غضّ من صوته ومن بصره أي نقّص". ويقول في التعقيب على آية سورة الحجرات: "غضّ بصره إذا ضعّفه عن حدّة النظر". وقد فسّر الراغب الأصفهانيّ في كتابه الجليل "مفردات الراغب" هذه الكلمة بما يقرب من المعنى المتقدِّم.
إذن، ﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ تعني خفض وتقليل النظر، وعدم تركيزه، وبلغة علماء أصول الفقه أنْ يكون النظر آليّاً، لا استقلاليّاً.
إيضاح ذلك: قد يكون نظر الإنسان إلى شخص، بُغية تحديد ملامحه، والتدقيق في وضع ذلك الشخص، كأنْ يُريد أنْ يطّلع على وضع لباسه، وشكل شعره... الخ.
وقد يكون نظر الإنسان إلى شخص يُقابله، بُغية الحديث معه، فينظر إليه لأنّ النظر يُلازم الحديث والحوار عادةً. الصنف الأوّل من النظر نظر استقلاليّ، والصنف الثاني نظر آليّ لأنّه مقدّمة وأداة للحديث.
إذن، فمعنى الآية هو: قل للمؤمنين أنْ لا يُركّزوا نظراتهم على النساء، وأن لا يُتابعوهن بالنظرات.
ينبغي أنْ نُضيف هنا أنّ بعض المفسّرين، الذين ذهبوا إلى أنّ "غضّ البصر" يعني ترك النظر، ادّعوا أنّ المقصود من ترك النظر هو تركه إلى العورة، كما أنّ الجملة اللاحقة في الآية تنظر إلى حفظ العورة. وكما قال الفقهاء: "والأمر بالغضّ لا عموم في متعلّقه، وحذفه لا يقتضيه، إذ حمله على العموم لكلِّ شيء ممتنع"3.
أمّا إذا كان المقصود - كما استنتجنا - من "غض البصر" وهو ترك التركيز في النظر، يعني أنْ ينظر الناظر بما يستلزمه الحديث ويقتضيه فحسب دون ملاحقة النظرات وتركيزها، فمِنَ المقطوع به أنّ متعلّق غضّ البصر هو الوجه فقط، إذ ما تقتضيه الضرورة هو هذا المقدار فقط، فما عدا الوجه ولعلّ الكفين أيضاً، لا يجوز النظر إليه حتماً مع غضّ البصر.
ستر العورة:ثُمّ نأتي لعبارة ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُم﴾ يعني أنْ تقول للمؤمنين أنْ يحفظوا عوراتهم. من الممكن أنْ يكون المقصود بهذه الآية هو طهارة الفروج عن كلِّ منافٍ وكلِّ عمل قبيح كالزنا والفحشاء ونظائرهما.
إلّا أنّ اعتقاد المفسّرين المسلمين الأوائل، كما أنّ مفاد الأخبار والأحاديث الواردة هو: أنّ جميع الموارد الّتي استخدم فيها القرآن "حفظ الفُروج" أراد بذلك حفظها من الزنا، إلاّ في هاتين الآيتين فالمقصود فيهما حفظها من النظر، يعني: وجوب ستر العورة. وسواء أخذنا بهذا التفسير، أو حملنا "حفظ الفُروج" على مطلق الطهارة والعفاف، فهي تشتمل على كلا التقديرين على مسألة "ستر العورة".
لم يكن "ستر العورة" عُرفاً مُلزِماً في جاهليّة العرب الأولى، وجاء الإسلام فألزم بستر العورة. وفي دنيا التمدُّن المُعاصِر هناك أيضاً من الغربيّين أمثال راسل من يؤيّد كشف العورة، فيُساق العالَم مرّةً أخرى إلى الجاهليّة الأولى.
يُعقِّب القرآن بعد الأمر بستر العورة بقوله: ﴿ذَلِكَ أَزْكَى لَهُم﴾. فستر العورة لون من الطهارة الروحيّة، حيث لا يكون الإنسان باستمرار ملتفتاً إلى الأعضاء الدنيا وما يرتبط بها من المسائل.
فقد أراد القرآن بهذه الجملة بيان فلسفة هذا العمل، وأراد في الواقع أنْ يُجيب أهل الجاهليّة القديمة والجديدة، لكي لا يعدّوا المنع غير منطقي، بل عليهم الالتفات إلى نتائج هذا العمل، ثم يقول بعد ذلك: ﴿إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾.
ثُمّ يقول في الآية اللاحقة: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ فيذكر في هذه الآية نفس التكليفين السابقين: اجتناب النظر، وستر العورة، الّلذين وجّههما للرجال، ويوجّههما للنساء.
من هنا يتّضح جيّداً أنّ الهدف من هذه التعاليم هو رعاية مصالح بني البشر، سواء كانوا رجالاً أو نساءً.
إنّ أحكام الإسلام لم تقم على أساس تمييز وتفضيل للرجل على المرأة، وإلّا يلزم أنْ توجّه كلّ هذه التعاليم للنساء دون فرض أيِّ حكم للرجال. وإذا لاحظنا أنّ مسؤوليّة "الستر" تعلّقت بالمرأة فقط، فذلك لأنّ ملاكها يختصّ بالمرأة. وكما أشرنا آنفاً، فالمرأة مظهر الحسن والجمال، والرجل تجسيد للإعجاب والإثارة، ومن المحتّم أنْ يُقال للمرأة: لا تستعرضي جمالك، ولا يوجّه مثل هذا الخطاب للرجل. لذا فرغم أنّ الأمر بالستر لم يوجّه للرجال فهم عمليّاً يظهرون في الملأ العام بشكلٍ أكثر ستراً من النساء، إذ الرجال ميّالون للنظر لا للتظاهر، بينما تميل النساء على العكس للتظاهر لا للنظر. فميل الرجل للنظر يدفع المرأة بشكلٍ أكبر لأنْ تتظاهر، والميل الضعيف للنظر لدى النساء يجعل الرجال أقلّ ميلاً للتظاهر. ومن هنا كان "التبرُّج" من خصوصيّات النساء.
الزينة:ثمّ تقول الآية في الجملة اللاحقة: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾. كلمة "زينة" في لغة العرب شاملة لألوان التجمُّل، الّتي تلتصق بالبدن كالخضاب والكحل، والتي تنفصل عنه كالمجوهرات والذهب.
ومفاد الحكم الوارد في الآية هو: لا ينبغي للنساء أنْ يُبرزن ما يتجمّلن به، ثُمّ يرد على هذا الحكم استثناءان، نضعهما موضع البحث تفصيلاً
الاستثناء الأول
﴿إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ ويُستفاد من هذا التعبير أنّ زينة المرأة على نوعين: نوع ظاهر، وآخر مخفيّ ما لم تُظهره المرأة عامدة. فلا يجب إخفاء النوع الأول من الزينة، أمّا النوع الثاني فيجب ستره وإخفاؤه. وهنا يُطرح استفهام بوصفه مشكلة أمام البحث، وهو: ما هي الزينة الظاهرة، وما هي الزينة المخفيّة؟.
وقد طُرح هذا الاستفهام منذ أقدم الأزمنة على الصحابة والتابعين والأئمّة عليهم السلام ، وقد أُجيب عنه. يقول في تفسير "مجمع البيان":"وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: إنّ الظاهرة الثياب والباطنة الخلخالان والقرطان والسواران. عن ابن مسعود. وثانيها: إنّ الظاهرة الكحل والخاتم والخدّان والخضاب في الكفّ.. عن ابن عبّاس، والكحل والسوار والخاتم.. عن قتادة.
وثالثها: إنّها الوجه والكفان.. عن الضحّاك وعطاء، والوجه والبنان.. عن الحسن"4.
وقد طرح هذا الاستفهام كثيراً على الأئمّة الطاهرين عليهم السلام ،، وأجابوا عليهم السلام ،عنه. وننقل هنا عدداً من الروايات الواردة في كتب الحديث، وقد نُقل أغلبها في تفسير الصافي. ويظهر أنّ الاتفاق قائم على هذه الروايات.
وإليك الروايات
1- عن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: ﴿إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قال: "الزينة الظاهرة الكحل والخاتم"5.
2 - عن عليّ بن إبراهيم القميّ، عن أبي جعفر عليه السلام في هذه الآية، قال: "هي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكفّ والسوار. والزينة ثلاث: زينة للناس، وزينة للمحرم، وزينة للزوج، فأما زينة الناس فقد ذكرناها، وأما زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها، والدملج وما دونه، والخلخال وما أسفل منه، وأما زينة الزوج فالجسد كلّه"6.
3 - عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قال: "الخاتم والمسكة، وهي القلب"7.
4 - عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: "ما يحلّ للرجل من المرأة أنْ يرى إذا لم يكن محرماً؟ قال: الوجه والكفّان والقدمان"8.
تتضمّن الرواية الأخيرة حكم جواز النظر للوجه والكفّين، لا حكم عدم وجوب سترهما. والحكمان مسألتان مستقلّتان. ولكنْ سنقول لاحقاً إنّ الإشكال الأكبر يتعلّق بجواز النظر، لا بعدم لزوم الستر. فإذا كان النظر جائزاً كان عدم وجوب الستر ثابتاً بالأولويّة. وسنتناول ذلك البحث.
5 - أتت أسماء بنت أبي بكر دار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (بيت أختها عائشة)، وكانت ترتدي ثياباً تحكي عمّا تحتها، فأدار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وجهه عنها وقال: "يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أنْ تُرى منها إلاّ هذا وهذا وأشار إلى كفّه ووجهه"9.
تنسجم هذه الروايات مع وجهة نظر ابن عبّاس والضحّاك وعطاء، ولا تتطابق مع وجهة نظر ابن مسعود، الّذي يدّعي أنّ المقصود من الزينة الظاهرة الثوب.
ووجهة نظر ابن مسعود لا تقبل التوجيه، إذ الثوب ظاهر بنفسه فلا معنى حينئذٍ لأنْ يُقال: لا تبدي النساء زينتهنّ إلّا الثوب، فالثوب الظاهر لا يقبل الإخفاء والستر لكي يُستثنى، خلافاً للأشياء الّتي ذكرها ابن عبّاس، والضحّاك وعطاء، والّتي وردت أيضاً في روايات الشيعة الإماميّة، فهي قابلة لأنْ يرد الاستثناء عليها.
على أيِّ حال فهذه الروايات يُفهم منها أنّ ستر الوجه والكفّين حتى المعصم غير واجب على المرأة، ولا مانع أيضاً حتى من إظهار الزينة الاعتياديّة المُتعارَفة الّتي توجد في هذين القسمين "الوجه والكفّين"، كالخضاب والكحل، حيث لا تخلو المرأة منها، وحيث إنّ إزالتها عمل خارج عن الحدود العاديّة.
وهنا نوضِّح: نحن نطرح المسألة هنا من وجهة نظرنا، ونذكر اجتهادنا في هذا الموضوع. ولكنْ يجب على كلِّ واحد من الإخوة والأخوات أنْ يُتابع ويُطبّق فتوى مرجع تقليده. وما انتهينا إليه من رأي يتطابق مع رأي بعض مراجع التقليد، ومن الممكن أنْ لا يتطابق مع رأي بعضهم الآخر (رغم أنّ الآخرين ليست لديهم فتوى بالخلاف، وإنّما يفتون بالاحتياط، لا بالجزم والصراحة).
غرضنا من هذا البحث هو: أنْ تتعرّفوا عن قُرب إلى مصادر التشريع الإسلاميّ، وأنْ تتسلّحوا بالمنطق الإسلاميّ المُحكم والمتين.
كلُّنا يعلم أنّ قطاعاً واسعاً من الأمّة - اليومَ - يطرح نفسه بوصفه "المثقّف والواعي"، وهذا القطاع ينظر إلى موقف الإسلام من المرأة نظرة سلبيّة. وهم لا يعرفون ماذا قال الإسلام، وهم ليسوا على اطّلاع على فلسفة الإسلام الاجتماعيّة، من هنا فنظرتهم السلبيّة خاطئة مئة بالمئة.
إنّ تحـلُّـل هـؤلاء مـن الحجـاب والعفـاف عملـيّـاً لا ينحـصر في كونهم مُتابعين لشهواتهم، بل حيث إنّ هؤلاء يجهلون الحجـاب الإسلاميّ وفلسفته، ذهبوا إلى أنّه خرافـة، وأنـّه حكـم يُفضي إلـى تخلّف البشر، وهذا الاعتقاد هو علّة بُعد وغربة بـل خـروج هـؤلاء من الإسلام.
ولو انحصر الأمر في المخالفة العمليّة ومتابعة الهوى والشهوة لكان يسيراً بل أصبح الأمر أمر إنكار الإسلام ورفضه. وعليك قارئي الكريم أنْ تتعرّف إلى منطق الإسلام وفلسفته الاجتماعيّة عن قرب، لتستطيع أنْ تُجيب عن شبهات هؤلاء.
وبديهيّ أنّ مهمّة الذبّ عن الشبهات لا يكفي لها قرّاء الرسائل العمليّة، والمطّلعون على الفتاوى، بل لا بُدّ أيضاً من البحث القائم على الدليل من زاويتَي النصوص، وفلسفتها الاجتماعيّة. ولذلك وجدنا هذا البحث ضروريّاً، وبذلك اندفعنا لدراسة هذه المسألة دراسة استدلاليّة مصحوبة ببيان الأدلّة.
أمّا ما هو الحدُّ الّذي تسمح الشريعة للمرأة بأنْ تُظهره أمام محارمها، فإنَّ الروايات والفتاوى مُختَلِفة في هذا المجال. والّذي يُستنتج من بعض الروايات، الّتي أفتى في ضوئها بعض الفقهاء، هو: يلزم ستر ما بين السرّة والركبة أمام المحارم عدا الزوج.
كيفيـّة الستر
بعد الاستثناء الأوّل تقول الآية: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِن﴾ ومن الواضح أنّ الخمار ليس له خصوصيّة هنا، بل المقصود هو ستر الرأس والرقبة والنحر. لقد كانت جيوب نساء العرب واسعة، لا تغطي نحورهنّ وصدورهنّ. وكُنَّ يسدلن خمرهنّ من الخلف فتبدو آذانهنّ وأقراطهنّ ونحورهنّ وصدورهنّ. فجاء حكم هذه الآية، بلزوم أنْ يُستخدم القسم الّذي يسدل الخلف من الخمار لتغطية ما كان مكشوفاً.
يقول "ابن عبّاس" في تفسير هذه الجملة:"تُغطّي شعرها وصدرها وترائبها وسوالفها"10.
فالآية تُشخِّص حدود الستر. وقد نقل السنّة والشيعة في التعقيب على هذه الآية رواية مفادها:"استقبل شابٌّ من الأنصار امرأة بالمدينة، وكانت النساء يتقنّعنَ خلف آذانهنّ، فنظر إليها، وهي مُقبِلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه "لبني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتينّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، قال: فأتاه فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرائيل بهذه الآية: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...﴾" إلخ 11.
التعبير المركّب من "على" و"ضرب" يُعطي هذا المعنى: أنْ تضع شيئاً فوق آخر، بحيث يعدُّ حاجباً ومانعاً. قال في تفسير الكشاف:"ضربت بخمارها على جيبها، كقولك ضربت بيدي على الحائط، إذا وضعتها عليه".
وجاء في تفسير الكشّاف في تفسير الآية (11) من سورة الكهف ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ﴾ ما يلي: "أي ضربنا عليها حجاباً من أنْ تسمع".
وفي تفسير مجمع البيان، يقول:"﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾. والخمر المقانع، جمع خمار، وهو غطاء رأس المرأة المنسدل على جنبيها، أُمِرنَ بإلقاء المقانع على صدورهنّ، تغطيةً لنحورهنّ، فقد قيل إنّهن كُنَّ يُلقينَ مقانعهنّ على ظهورهنّ، فتبدو صدورهنّ، وكنّى عن الصدور بالجيوب، لأنّها ملبوسة عليها، وقيل إنّهن أُمِرنَ بذلك ليسترنَ شعورهنّ وقرطهنّ وأعناقهنّ. قال ابن عبّاس: تُغطّي شعرها وصدرها وترائبها وسوالفها"12.
وفي تفسير الصافي في نهاية تفسير جملة ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾: ستراً لأعناقهنّ.
وعلى أيِّ حال فالآية تُشخِّص بصراحة تامّة حدود الستر اللازم. ومراجعة تفاسير وروايات السنّة والشيعة، وعلى الخصوص الشيعة، توضّح المسألة بشكلٍ كامل، ولا تُبقي مجالاً للشكّ في مفهوم الآية.
الاستثناء الثاني
﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ لِبُعُولَتِهِنَّ...﴾ إلخ.
حدَّد الاستثناء الأوّل مقداراً من الزينة الّتي يجوز إظهارها لعموم الرجال. أمّا هذا الاستثناء فيُحدِّد الأشخاص الذين يجوز إظهار مطلق الزينة أمامهم. دائرة الاستثناء الأوّل أوسع - من زاوية الأفراد، وأضيق من زاوية المواضع الّتي تظهر - من دائرة الاستثناء الثاني. وأغلب الأشخاص الذين ذكرتهم الآية هم عين ما يُدعى فقهيّاً "المحارم"، وهم:
1 - لبعولتهنّ.
2 - أو آبائهنّ.
3 - أو آباء بعولتهنّ.
4 - أو أبنائهنّ.
5 - أو أبناء بعولتهنّ.
6 - أو إخوانهنّ.
7 - أو بني إخوانهنّ.
8 - أو بني أخواتهنّ.
9 - أو نسائهنّ.
10 - أو ما ملكت أيمانهنّ.
11 - أو التابعين غير أولي الإربة.
12 - أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء.
الاستثناء الثالث
وأمّا الاستثناء الثالث الوارد في مسألة الحجاب ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ...﴾ 13، فهو ثالث استثناء في مسألة الحجاب، حيث ورد الأوّل والثاني في الآية 31 من نفس السورة.
ما هو المقصود من القواعد؟ القواعد هُنَّ النساء العجائز الّلواتي قعدنَ جنسيّاً، حيث لا يكوننّ مورد قبول الرجال جنسيّاً، ولذا لا يكون لهنّ أمل في الزواج، وإنْ أمكن أنْ تكون لهنّ رغبة.
ويُفهم من قوله: ﴿أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ أنّ للمرأة نوعين من الّلباس، أحدهما لباس داخل المنزل، وآخر خارجه، وما أُجيز هو: خلع اللباس الذي يُستعمل داخل المنزل، دون تبرُّج وزينة.
وقد حدّدت النصوص الإسلاميّة حدود خلع الستر الذي يجوز للقواعد من النساء. فقد ورد في الأثر عن الحلبيّ عن الصادق عليه السلام أنّه قرأ ﴿أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُن﴾ قال: الخمار والجلباب، قلت: بين يدي من كان؟ فقال: بين يدي من كان غير متبرِّجة بزينة، فإنْ لم تفعل فهو خير لها 14.
يُمكن أنْ نستنتج قاعدة كليّة من قوله ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُن﴾، وهي: أنّه كلّما راعت المرأة جانب العفاف والستر بشكلٍ أكبر فهو أكبر حبّاً لله. وإنّ الرخص الّتي منحها الله إرفاقاً وتسهيلاً في كشف الوجه والكفّين، لا ينبغي أنْ تؤدّي إلى إغفال هذه القاعدة الكليّة.
نساء النبيِّ صلى الله عليه واله وسلم الآيات الّتي تتعلّق بمسألة "الستر" هي آيات سورة النور الّتي أوضحناها. كما أنّ هناك عدّة آيات في سورة الأحزاب يُمكن ذكرها على هامش هذه المسألة. بعض هذه الآيات متعلِّق بنساء رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وبعضها الآخر أحكام وردت في حفظ حريم العفاف.
فيما يتعلّق بالقسم الأوّل، فقد قال تعالى: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً*وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى...﴾.
ليس المقصود من الحُكم في هذه الآية سجن نساء النبيِّ في بيوتهنّ، إذ التاريخ الإسلاميّ يحكي لنا أنّ النبيَّ صلى الله عليه واله وسلم كان يصطحب نساءه في السفر، وكان لا يمنعهنّ من الخروج من دورهنّ. بل المقصود من الآية هو أنّ المرأة لا تخرج من بيتها لكي تستعرض نفسها أمام الرجال، وخصوصاً بالنسبة لنساء النبيِّ، فالحكم أكثر تأكيداً والمسؤوليّة أشدّ وأكبر.
تقول الآية (53) من سورة الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً﴾.
جاءت كلمة "الحجاب" في هذه الآية. وحينما يُقال آية الحجاب - كما أشرنا - فالمقصود هو هذه الآية. وحكم الحجاب في هذه الآية يختلف عن حكم "الستر" الذي هو مورد بحثنا. فالآية تُحدِّد سلوكاً داخل أسرة محدَّدة، وتمنع من دخول محلِّ النساء، وتأمر بالحديث - حينما تقتضي الحاجة - من وراء حجاب. وهذه المسألة لا علاقة لها بمسألة "الستر"، الّتي وردت في البحث الفقهيّ تحت عنوان "الستر"، لا "الحجاب".
وجملة ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ نظير قوله: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ 15، فهي تدلُّ على أنّه كلّما التزم الرجل والمرأة جانب الستر والحجاب، وأقلعا عن التعامل الّذي يُفضي إلى تبادل النظرات، فإنّ ذلك أقرب للطهارة الروحيّة والتقوى. وكما قُلنا: لا ينبغي إغفال رجحان "الستر والحجاب وترك النظر" أخلاقيّاً على أساس الرخص والإباحات، الّتي أتت بحكم الضرورة.
حريم العفاف
تقول الآيتان (59 - 60) من سورة الأحزاب ما يلي:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَ قَلِيلاً﴾16.
ينبغي دراسة مسألتين بدقّة في هذه الآية: الأولى: ما هو معنى الجلباب، ودنو الجلباب؟
الثانية: ذكرت الآية علّة الحكم فيها ﴿أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾ فما هو
المقصود بذلك؟
أمّا المسألة الأولى: فقد اختلفت كلمات المفسّرين واللغويّين في معنى كلمة "الجلباب"، فأضحى الوقوف على المعنى الصحيح لهذه الكلمة أمراً عسيراً.
يقول في المُنجِد:"القميص أو الثوب الواسع".
ويقول الراغب في مفرداته:"الجلابيب: القمص والخمر".
ويقول صاحب القاموس:"والجلباب كسرداب وسنمار: القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة، أو ما تُغطّي به ثيابها من فوق كالملحفة أو هو الخمار".
ويقول في لسان العرب:"الجلباب ثوب واسع من الخمار دون الرداء تُغطّي به المرأة رأسها وصدرها". وتقترب عبارة الكشّاف من المضمون المتقدّم.
ويقول في مجمع البيان حينما يُحدّد المدلول اللغويّ:"الجلباب: خمار المرأة الذي يُغطّي رأسها ووجهها إذا خرجت لحاجة".
وضمن تفسير الآية يقول:"أي قل لهؤلاء فليسترن موضع الجيب بالجلباب وهو الملاءة الّتي تشتمل بها المرأة".
ثم يقول بعد ذلك:"وقيل إنّ الجلباب هو الخمار".
المُلاحَظ أنّ معنى "الجلباب" ليس واضحاً بجلاء لدى المفسّرين. ويظهر أنّ الأصحّ هو: أنّ الجلباب - في أصل الّلغة - يشمل كلّ ثوب واسع. ولكنّه كان يُطلق غالباً على الخمار، الّذي هو أكبر من المقنعة، وأصغر من الرداء. من هنا يتّضح أنّ هناك لونين من الخمار كانت النساء تستعملهما: أحدهما: ما يُدعى بالخمار أو المقنعة، وهو ربطة صغيرة تُستعمل غالباً داخل المنازل. والنوع الآخر: خمر واسعة تُستعمل خارج المنزل. وهذا المعنى يتطابق مع الروايات الّتي ورد فيها لفظ "الجلباب". كرواية عبيد الله الحلبيّ الّتي نقلناها في تفسير الآية (60) من سورة النور. حيث يُستفاد منها أنّ الجلباب كان غطاء لشعر الرأس.
كما ورد في روايات أخرى في تفسير الآية المتقدّمة أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: "الخمار والجلباب إذا كانت المرأة مسنّة"17.
على هذا الأساس فالمقصود من "دنوّ الجلباب" التستّر به. يعني حينما تُريد المرأة الخروج من المنزل عليها أنْ تلبس خمارها الواسع. ومن الواضح أنّ "تدني" لا تعني لغويّاً: تلبس، بل يُستفاد هذا المعنى من سياق ومورد الاستعمال، فحينما تقول لإمرأة: "ادني عليك ثيابك" فالمعنى هو أنْ لا تجعليها سائبة، بل اجمعيها، ولا تجعليها أمراً لا أثر له، بل تستّري بها.
إنّ استفادة النساء من العباءة الّتي يضعنها على رؤوسهنّ على نحوين النحو الأوّل: يكون لبس العباءة فيه ذا صفة تشريفاتيّة فحسب، كما هو الحال في أيّامنا لدى بعض النساء اللاتي نراهنّ، حيث إنّ العباءة لديهنّ مجرّد اسم وعادة، فهي لا تُغطّي بعباءتها أيّ جزء من بدنها، بل تتركها مفتوحة، يبدو منها الشّعر والرقبة، رغم كونهنّ لا يمتنعنَ عن لقاء الرجال الأجانب، ذلك أنّهن لا مانع لديهنّ من تمتّع الآخرين بالنظر إلى أجسادهنّ!.
النحو الثاني: على العكس من الأوّل، حيث تُمسك المرأة بعباءتها، ولا تتركها مفتوحة، وهذا مؤشِّر على عفاف المرأة وتستّرها. فهي عمليّاً تدفع أنظار الرجال عنها، وييأس المنحرفون منها.
وسوف نُشير إلى أنّ التعليل الوارد في آخر الآية يُعطي المفهوم الأخير.
أما بالنسبة إلى المسألة الثانية: علّة الحكم الوارد في الآية:فقد ذكر المفسّرون: أنّ جمعاً من المنافقين كانوا يقفون ليلاً عند ابتداء دخول الظلام على مفترق الطرق وعلى رأس الأزقّة، للاعتداء على الإماء.
وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الستر ليس بواجب على الإماء. وقد يعترض هؤلاء الشباب المنحرفون أحياناً سبيل الحرائر من النساء، بادّعاء أنّهم حسبوا كونهنّ إماءً، من هنا نزل الحكم للنساء الحرائر بأنْ لا يخرجنَ من بيوتهنّ دون جلباب يعني دون ثياب كاملة، لكي تُشخَّص الحرّة من الأمة بشكلٍ كامل، فلا يتعرّض لهنّ أحد.
إنّ ما ذكره المفسِّرون في هذا المجال لا يخلو من إشكال، إذ يُفهم منه أنّ التعرّض للإماء لا مانع منه، وأنّ المنافقين استخدموا عذراً مقبولاً لممارستهم، والحال أنّ الأمر ليس كذلك، فرغم أنّ ستر الشَّعر ليس واجباً على الإماء، ولعلّ سببه أنّ وضعهنّ غير مثير ولا تقعن مورداً لرغبة الرجال، مضافاً إلى أنّ عملهنّ الخدمة - كما أشرنا - ولكن وعلى أيِّ حال فالتعرُّض لهنّ ذنب، ولا يستطيع المنافقون أنْ يتخذوه ذريعةً لممارساتهم.
هناك احتمال آخر طُرح في هذا المجال وهو: حينما تخرج المرأة من دارها مستورة مراعية جانب العفاف، فسوف لا يجرؤ المنحرفون على التعرُّض لها.
يكون معنى الجملة في ضوء الاحتمال الأوّل: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾ هو: أنّه بذلك سوف تُشخّص الحرّة من الأمة، فلا يتعرّض لها الشباب ولا تؤذى. أمّا على ضوء الاحتمال الثاني يكون معناها: أنّه بذلك سوف يُعرفن بأنّهنّ نساء عفيفات، وسوف ينصرف عنهنّ المنحرفون، إذ سيتضح أنّ هنا حريم العفاف، فتُعمى عين الخيانة وتُقطع يدها.
لم يُبيّن في هذه الآية حدود الستر، فلا يُمكن أنْ نفهم من هذه الآية هل أنّ ستر الوجه واجب أو لا. والآية الّتي تعرّضت لحدود الستر هي الآية (31) من سورة النور، الّتي درسناها آنفاً.
إنّ المفهوم الّذي يُستخلص من هذه الآية، حقيقة ترسم منهجاً رفيعاً، وهو: أنّه ينبغي للمرأة المسلمة أنْ تتحرّك بين الناس، بالشكل الذي تعكس خلاله العفاف والوقار والطهارة، بحيث تكون هذه المعالِم شارتها الّتي بها تُعرف. وعندئذٍ ييأس المنحرفون الّذين يتصيّدون، ولا تخطر في بالهم قضيّة استغلالهنّ. فالمُلاحَظ أنّ الطائشين من الشباب إنّما يعترضون سبيل النساء الرخيصات اللواتي لا يلتزمنَ بحجاب. وحينما يعترضونهنّ، ويعترضنَ، يُقال لهنّ: لو لم ترغبن بذلك ما كُنْتُنّ على الحال الّتي أنتنَّ عليها.
ونظير حكم هذه الآية الحكم الّذي جاء في الآية الّتي تسبق هذه الآية بخمس وعشرين آية، حيث يوجّه القرآن الخطاب لنساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم ويقول: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾. والحكم في هذه الآية يبيّن الوقار والعفاف في الحديث، بينما تبيّن الآية - مورد البحث - الوقار في المشي والذهاب والإياب.
قُلنا آنفاً: إنّ حركات الإنسان وسكناته تحكي أحياناً، فأحياناً يكون وضع لباس المرأة ومشيها وحديثها ذا معنى، فيقول للرجل بلا لسان: أعطني قلبك، أطلبني، تابعني... وأحياناً تنطق بالعكس فتقول له بلا لسان: لا تتعرّض لسور عفافي. على أيِّ حال هذا هو المستفاد من هذه الآية، لا الكيفيّة الخاصّة للستر. وكيفيّة الستر توضّحه الآية (31) من سورة النور. ومع ملاحظة أنّ الآية - موضوع البحث - متأخّرة في نزولها عن آية سورة النور يُمكن أنْ نستخلص أنّ مفهوم قوله: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ﴾ هو: لزوم رعاية حكم سورة النور بشكل كامل، لكي يخلصنَ من أذى الأشرار.
الآية الّتي تسبق هذه الآية تقول: ﴿يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِينا﴾. فهذه الآية تُدين وتُحذِّر أولئك الّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات. ثُمّ يُعقِّب القرآن الكريم مباشرة بحكم الآية موضوع البحث، وذلك برعاية الوقار الكامل لتُصان أعراضهنّ من عدوان المنحرفين. فالالتفات للآية السابقة يُعين على فهم مقصود الآية بشكلٍ أفضل.
حدود الستر
نُريد الآن أنْ نُحلِّل من وجهة النظر الفقهيّة حدود الستر الّتي أوجبها الإسلام على المرأة، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجهات النظر المختلفة في هذا المجال.
ونُكرِّر هنا أنّ بحثنا ذا طابع علميٍّ ولسنا بصدد إعطاء فتوى في هذا المجال. فأنا أُقرِّر الرأي الّذي أنتهي إليه، وما على المكلَّف إلّا العمل بفتوى المجتهد الّذي يُقلِّده.
يلزمنا بدءاً أنْ نُحدِّد الأمور القطعيّة من وجهة نظر الفقه الإسلاميّ، ثُمّ نأتي إلى نقاط الاختلاف.
أوّلاً: لا شكّ في وجوب ستر ما عدا الوجه والكفّين على المرأة من وجهة نظر الفقه الإسلاميّ. وهذا الحكم من الأحكام الفقهيّة الضروريّة المسلّمة. فليس هناك تردّد وشكّ في هذا المقام لا على مستوى الأدلّة "الكتاب والسنّة"، ولا على مستوى الفتاوى، إنّما الخلاف حول لزوم ستر الوجه والكفّين إلى المعصم.
ثانياً: يلزم أن نفصل بين مسألتين، مسألة "وجوب الستر" الّتي هي مسؤوليّة المرأة، ومسألة "حرمة النظر للمرأة" والّتي هي مسؤوليّة الرجل. فمِنَ الممكن أنْ يذهب شخص إلى عدم وجوب ستر الوجه والكفّين على المرأة، ويرى في نفس الوقت حرمة النظر على الرجل. فلا يصحّ الاعتقاد بأنّ هناك ملازمة بين هاتين المسألتين. كما أنّ الثابت فقهيّاً عدم وجوب ستر الرأس على الرجل، لكنْ هذا لا يكون دليلاً على جواز نظر المرأة إلى رأس وبدن الرجل.
نعم، إذا قلنا بالجواز في مسألة النظر يلزمنا القول بعدم الوجوب بالنسبة للستر، إذ من المستبعد جدّاً أنْ يجوز نظر الرجل لوجه وكفّي المرأة، ولكنْ يحرم على المرأة كشف الوجه والكفّين. وسننقل أنّه لا يُمكن العثور على شخص بين قدماء المفتين يذهب إلى وجوب ستر الوجه والكفّين، ولكنْ هناك من يذهب إلى حرمة النظر.
ثالثاً: ليس هناك شكّ في مسألة جواز النظر من أنّ النظر إذا كان على أساس الّلذة والريبة فهو حرام.
والنظر بقصد الّلذة يعني النظر لأجل حصول الّلذة الجنسيّة، أمّا الريبة فهي تحصل عادةً بحكم خصوصيّة الناظر والمنظور إليه، حيث يُصبح النظر أمراً مُريباً فيُخاف منه، ويُخشى حصول الميل الجنسيّ على أثره.
فهذان الّلونان من النظر حرام مطلقاً، حتى بالنسبة للمحارم. والمورد الوحيد الذي استُثني هو النظر بقصد الزواج.
ففي هذا المورد يجوز النظر وإن كانت هناك لذّة، وهي حاصلة في الغالب. وبديهيّ أنّ شرط الجواز هو أنْ يكون الشخص هادفاً في الواقع للزواج، يعني أنّ الرجل يُريد جدّيّاً رؤية المرأة لأجل الزواج، ويُريد الاطّلاع على سائر خصوصيّات المرأة المنظورة، الّتي يُريدها من الزوجة. لا أنّه يدّعي الزواج كذريعة لإشباع فضوله وشهوته. والقانون الإلهيّ لا يُشبه قوانين البشر، فيُريح الإنسان باله بالذرائع والحيل، ففي القانون الإلهيّ يكون وجدان الإنسان حاكماً، والله تعالى الّذي لا يخفى عليه شيء مُحاسِباً.
من هنا يلزم القول إنّه ليس هناك استثناء في الواقع، إذ ما هو حرامٌ قطعاً هو النظر بقصد الّلذة، وما لا مانع منه هو النظر الذي لا يستهدف التلذّذ بل يكون التلذّذ لازماً قهريّاً له.
لقد صرّح الفقهاء بأنّه لا يجوز لأحدٍ أنْ ينظر إلى النساء بقصد اختيار واحدة منهنّ للزواج. إنّما يجوز النظر إلى امرأة خاصّة تعرّف إليها ودرس جوانبها المختلفة، ولم تبق أمام زواجه منها أيّة عقبة سوى القناعة بشكلها وقيافتها، فيُريد النظر إليها لكي يقطع أمر الزواج منها. وقد طرح بعض الفقهاء هذه المسألة بصورة احتياطيّة.
الوجه والكفّان:بعد أنْ أوضحنا الموارد القطعيّة للزوم الستر، يأتي دور البحث بصدد "ستر الوجه والكفّين".
الفلسفة الّتي يقوم عليها الحجاب تتفاوت بشكلٍ كامل بين اتّجاهين، حسب الموقف من "مسألة الستر"، فإنْ اخترنا وجوب ستر الوجه والكفّين أصبحنا أنصار فلسفة نظام البردة، ومنع المرأة من ممارسة أيِّ عمل اجتماعيٍّ إلّا في محيط المنزل أو المحيط النسويّ البحت.
أمّا إذا اخترنا لزوم ستر كامل البدن، وحرّمنا أيَّ لون من ألوان الإثارة على المرأة، وحرّمنا على الرجال أيضاً النظر بلذّة وريبة، واستثنينا من لزوم الستر الوجه والكفّين حتى المعصمين، بشرط تجنُّب أيِّ لون من التجميل المثير والمهيّج، حينئذٍ ستتّخذ المسألة وجهةً أخرى. وسنكون أنصار فلسفة أخرى، لا ترى ضرورة لحجز المرأة داخل البيت وحجبها، بل لا بُدَّ من رعاية اختصاص الممارسة الجنسيّة داخل محيط الأُسرَة، وتطهير المحيط الاجتماعيّ العام، وأنْ لا تُمارَس أيّة لذّة سواء كانت عن طريق النظر أو الّلمس أو السمع خارج إطار الزواج، وعليه يُمكن للمرأة أنْ تتحمّل مسؤوليّة الأعمال الاجتماعيّة.
الخلاصة
إنّ الوجه والكفّين حدٌّ ما بين سجن المرأة وحرّيّتها. والاعتراضات الّتي يوردها معارضو فكرة الحجاب إنّما ترد إذا قُلنا بلزوم ستر الوجه والكفّين. أمّا إذا لم نذهب إلى وجوب سترهما فلا يُمكن لهم الاعتراض على ستر سائر أجزاء الجسد، بل الإشكال يرد عليهم حينئذٍ.
فإذا لم تكن المرأة مريضة نفسيّاً، ولم ترغب الخروج عريانة، فلا يمنعها ستر تمام جسدها ـ عدا الوجه والكفّين حتى المعصمين - من ممارسة أيّة فعاليّة في المحيط العامّ. بل على العكس، فالتبرُّج، وارتداء الملابس الضيّقة، والموضات المتنوّعة، يُخرج المرأة على هيئة موجود مُهمَل، وغير مُنتِج، حيث تستهلك كامل وقتها للإبقاء على تجمُّلها ومظهرها. وإنّ استثناء الوجه والكفّين عن لزوم الستر، لأجل رفع الحرج، ومنح المرأة فرصة ممارسة النشاط العامّ، وعلى هذا الأساس نفسه لم يُلزم الإسلام بسترهما.
مشاركة المرأة في الفعاليـّات الاجتماعيـّة
قد أمسكنا - من خلال مجموع ما طرحناه - بمفهومين:
أحدهما: أنّ الإسلام اعتنى بشكلٍ كاملٍ بأهميّة وقيمة العفاف الرفيعة، وبضرورة شرعيّة العلاقة الجنسيّة بين الرجل والمرأة سواء كانت عن طريق النظر، أو الّلمس أو السمع، أو المضاجعة.
ولم يرض أنْ تُخدش قيمة العفاف وشرعيّة العلاقة الجنسيّة على الإطلاق، وتحت أيِّ شعار، وبأيِّ اسم وعنوان. أمّا عالَمنا المعاصِر فقد أغفل هذه القيمة الإنسانيّة الرفيعة، وفي نفس الوقت فهو لم يُرِد الاعتراف بهذا الواقع السلبيّ رغم أنّ آثاره تحيق به.
إنّ عالم اليوم أفسد نفوس الشباب بشدّة باسم حريّة المرأة وأكثر تحديداً باسم: حريّة العلاقات الجنسيّة. فبَدَلَ أنْ تُساهم هذه الحريّة في رشد الاستعدادات وتفتّحها فقد أخذت بتبديد الطاقات والاستعدادات الإنسانيّة بصورة أخرى تختلف عن الصورة القديمة لهذا التبديد. فقد خرجت المرأة من نطاق المنزل ولكن إلى أين ذهبت؟ إلى سواحل البحار، وإلى أرصفة الشوارع، وإلى قاعات الحفلات الساهرة! لقد هدّمت المرأة - اليوم، باسم الحريّة - الأُس