يتم التحميل...

الخوف من الله تعالى

المتقون

"ثمّ وعظ أهل العقل، ورغبهم في الآخرة، فقال: " وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ"1، وقال: " وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ"2،

عدد الزوار: 21

يا هشام

"ثمّ وعظ أهل العقل، ورغبهم في الآخرة، فقال:
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ1، وقال: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ2، يا هشام، ثم خوّف الذين لا يعقلون عذابه فقال: ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ3، يا هشام، ثمّ ذمّ الذين لا يعقلون فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ4 وقال تعالى: ﴿اِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ5، وقال:﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ6، ثمّ ذمّ الكثرة فقال: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ..َ7، وقال: أكثر الناس لا يعقلون وأكثرهم لا يشعرون.

تمهيد

بعد أن أشار المام عليه السلام لدور العقل ومركزيته لسائر الفضائل ولتحقيق المعنى الأكمل للعبودية لله تعالى، شرع الإمام عليه السلام في الحديث عن التخويف الإلهيّ للإنسان الذي ينحرف عن الصراط المستقيم وشرع الله الحنيف، فاستشهد بالعديد من الآيات الشريفة الدالة على لزوم الخوف من الله تعالى، وأنّ على العاقل أن يحذر ويخاف ممّا أعد الله تعالى للمخالفين لحكمه وأمره، وختمت الفقرة باستشهاد الإمام بآيات الكتاب على ذمّ الكثرة وصفاتهم التي وردت في القرآن. وسنتحدث في هذا الدرس عن هذين الأمرين بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

الخوف جلباب العارفين

كلمتان وصف أمير المؤمنين عليه السلام بهما الخوف، ومدح الخائفين، والجلباب هو ما يُلبس ويلازم الجسد، وكذلك الخوف من الله تعالى فإنّه لا بدّ أن يلازم المرء في كل تصرفاته، وأما توصيف الإمام بأنه جلباب العارفين فهذا غاية المدح لمن كان الخوف من الله تعالى منطلقاً له قبل أن يقوم بأيّ حركة وسكنة، فبالخوف من الله تتحقق التقوى، فعن الإمام علي عليه السلام : "الخشية من عذاب الله شيمة المتّقين"8.

والملاحظ أنّ العديد من الروايات شبّهت الخوف بالدثار وما يغطي المرء، وكأنّ الخوف ساتر له عن سائر ما يؤذيه، فالذنوب والمعاصي في حقيقتها ضرر للإنسان وإن لم يكن الإنسان ملتفتاً لذلك، ومستغرقاً في اللذة الظاهرية للذنب التي تعقب من ورائها عذاباً أبدياً وندماً وحسرةً، فقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا9، يدلّ على أنّها نارٌ حقيقية، لكن المرء لاستغراقه في لذّة الدنيا وغفلته التامّة عن الله تعالى لا يشعر بهذه النار، عن الإمام زين العابدين عليه السلام : "ابن آدم، لا تزال بخير... ما كان الخوف لك شعاراً والحزن دثاراً"10.

ولكن السؤال الأهم الذي ينبغي معرفته كيف نخشى الله تعالى؟


كيف نخشى الله تعالى؟

هنا السؤال الأهمّ الذي ينبغي الإجابة عليه، إذ كيف يتحقّق الخوف الحقيقي الذي يترك أثره على دين المرء، الخوف الذي ينطبق عليه قول الله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ11.
يجيبنا أمير المؤمنين عليه السلام على هذا السؤال في ما روي عنه عليه السلام : "احذروا من الله ما حذّركم من نفسه، واخشوه خشيةً يظهر أثرها عليكم"12.

فماذا حذرنا الله تعالى من نفسه؟ لو طالعنا كلام الله تعالى لطالعتنا الكثير من الآيات التي يصف الله تعالى فيها نفسه تارة بأنّه شديد العقاب، وأخرى بأنّه ذو العذاب الشديد، ويكفي لو نظرنا لما في أهوال يوم القيامة ودقيق الحساب وعظيم الهول المحيط بها إذ يخلق فينا خوفاً منه. ومن الأمور التي تُخشى من الله تعالى عدله، فلو عاملنا الله بعدله وبما نستحق على تقصيرنا وما اقترفناه من آثام لما ذقنا طعم الجنّة أبداً.وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: "خف الله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم استترت عن المخلوقين بالمعاصي وبرزت له بها فقد جعلته في حدّ أهون الناظرين إليك"13.

فالاعتقاد بأنّ الله تعالى يرانا في كلّ أعمالنا، وينظر إلينا واليقين بذلك يخلقان فينا خوفاً حقيقياً، ونحن نعلم أنه يرانا حقاً، فكيف يستتر المرء بحسب الرواية عن سائر الخلق في المعاصي ويجاهر الله بها سراً، أليس هذا استخفاف بالناظر إلينا؟

العلم والخوف

وينبغي هنا أن نلتفت لأمر مهم وهو أن هنالك أموراً تساعد الإنسان للوصول للخوف الحقيقي، ونقصد بالخوف الحقيقي ما يقابله من الخوف الإدعائي الذي كلنا يقدر على ادعائه باللسان والكلام فحسب، ومن هذه أهم هذه الأمور العلم فعن الإمام علي عليه السلام: "مخافة من الله على قدر العلم به"14.

والمراد بالعلم هنا اليقين لا مجرد أن يعرف الإنسان معرفةً، فاليقين بالشيء أعمق من ذلك، فكلنا يعرف أن الله يرانا في كل أحوالنا، ولكن هل نتصرف بناء على هذه المعرفة؟ والفرق بين العلم والمعرفة يتبين لنا في مثال، فلو أن طبيباً ما منعنا عن مادة معينة وحذرنا من سميتها، فهنا يتحقق يقين في نفس الإنسان فلا يقدم على تناول المادة السامة، لأنه حصّل اليقين في النفس، ولم يعد الأمر مجرد معرفة، ولذلك كان العلماء هم أكثر الناس خوفاً من الله لما أكرمهم الله تعالى به من نور العلم، العلم الحقيقي، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُور15.

وعن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان بالله أعرف كان من الله أخوف"16.والتفكر في المسائلة الإلهيّة يزيد من علم المرء وكذلك التأمل فيما ورد عن المعصومين عليهم السلام من كلام يحيي القلوب الميتة بنور العلم والحكمة، فهذا رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ينبهنا في كلام عميق فيقول: "ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين:بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، وفي الشيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فوالذي نفس محمّدٍ بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلا الجنَّة أو النَار"17.

خوف لا يأس فيه

ولكن للخوف حدوداً وهي أن لا يصل المرء لحالة اليأس من روح الله ورحمته و هو اليأس الذي يعد من الكبائر، فطمع المؤمن برحمة الله تعالى يعدل من حالة الخوف لديه فلا يجعلها تصل لمرحلة اليأس من روحه ورحمته تعالى، وقد نبّهنا الكثير من الروايات والآيات لهذه المسألة، قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَاب18.

وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنه يشرف على النار، ويرجوه رجاءً كأنه من أهل الجنة19. وعنه عليه السلام: "كان أبي عليه السلام يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا"20.

طريق الخوف الموحش

إن الطريق الموصل لله تعالى طريقٌ قلَّ السالكون فيه، ولذا كانت وصية أهل البيت عليهم السلام أن لا نستوحش من سلوكه، فعن أمير المؤمنين عليه السلام:"أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله"21.

فإذا كانت طريق الحق موحشة وكان أهل الحق قلة، فهل الكثرة هم في طريق الخطأ ؟ هذا ما نبهتنا إليه الوصيّة المباركة في آخرها، إذ إن الإمام عليه السلام نبه هشام رحمه الله إلى أن الكثرة مذمومة في الكتاب العزيز واستشهد على ذلك بالآيتين المباركتين:﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ...22﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْد لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُون23

بينما نرى أن الله تعالى مدح القلة في القرآن فقال: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور24. وفقنا الله تعالى للسير قدماً في الصراط السوي، فنتبع هديه ولا نتبع السبل فتفرّق بنا عن رضاه، وجعلنا ممن يخافه حق الخوف ويعمل لنيل الكرامة لديه إنه سميع مجيب.

*اولو الالباب,سلسلة الدروس الثقافية,نشر:جمعية المعارف,ط:2009م-ص:23-29.


1- الانعام:32
2- القصص:60
3- الصافات:136-138
4- البقرة:170
5- الانفال:22
6- لقمان:25
7- الانعام:116
8- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 824.
9-النساء:10
10- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 824.
11- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 824.
12- السجدة:16
13- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 825.
14- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 825.
15- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 825.
16- فاطر:28
17- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 825.
18- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 826.
19- الزمر:9
20- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 826.
21- نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام ج 2 ص 181.
22- الأنعام:116
23- لقمان:25
24- سبأ:13ص

2010-11-30