يتم التحميل...

الصبر من (الأربعون حديثاً)

العلاقة مع الله

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:إن الحُرّ حُرّ على جميع أحواله،إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر، واستُبْدِل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين، لم يُضْرِر حريته أن استُعبد وقهر وأسر، ولم تُضرِره ظلمة الجب ووحشته.

عدد الزوار: 21

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إن الحُرّ حُرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر، واستُبْدِل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين، لم يُضْرِر حريته أن استُعبد وقهر وأسر، ولم تُضرِره ظلمة الجب ووحشته وما ناله أن من الله عليه فجعل الجبار العاتي له عبداً بعد إذ كان "له" مالكاً، فأرسله ورحم به أمةً وكذلك الصبر يُعقبُ خيراً فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا"1.


معنى الصبر
الصبر هو الإمتناع عن الشكوى على الجزع الكامن. يقول العارف المعروف كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني: "إن المقصود من الامتناع عن الشكوى، هو الشكوى إلى المخلوق، وأما الشكوى عند الحق المتعالي وإظهار الجزع والفزع أمام قدسيته فلا يتنافى مع الصبر. كما اشتكى النبي أيوب عند الحق سبحانه قائلاً: ﴿إَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ(ص:41)، رغم أن الله تعالى أثنى عليه بقوله: ﴿إِنََّّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(ص:44)، وقال النبي يعقوب ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ(يوسف:86)، مع أنه كان من الصابرين".

ويبدو من تراجم حياة الأنبياء العظام والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين رغم أن مقاماتهم كانت أرفع من مقام الصبر ومقام الرضا والتسليم، إنهم لم يمتنعوا عن الدعاء والتضرع والعجز أمام المعبود، وكانوا يسألون حاجاتهم من الحق سبحانه.

إن تذكر الحق جل وعلا والخلوة والمناجاة مع المحبوب وإظهار العبودية والذل أمام عظمة الكامل المطلق، غاية آمال العارفين وثمرة سلوك السالكين.

مقام الصبر
إن الصبر يعتبر من مقامات المتوسطين، لأن النفس ما دامت تكره المصائب والبليات، وتجزع منها، فهذا يعني أن مقام المعرفة ناقص. كما أن مقام الرضا بالقضاء، والإبتهاج من إقبال المصائب عليه، مقام أرقى من مقام الصبر، رغم كون مقام الرضا من مقام المتوسطين أيضاً.

فالإنسان إذا أدرك حقيقة العبادة وآمن بصورها البهية في الآخرة، وكذلك آمن بالصور الموحشة للمعاصي، لما كان للصبر على الطاعة أو المعصية معنى. بل الأمر يغدو معكوساً، فترك العبادة عنده أو فعل المعصية هو الأمر المكروه الذي يتسبب بجزعه النفسي، جزع أكثر من جزع الصابرين في البليات والمصائب.

نُقل عن العبد الصالح علي بن طاووس قدس سره أنه كان يحتفل في كل عام يوم ذكرى بلوغه للتكليف الشرعي، ويتخذه عيداً وينثر الهدايا على الأصدقاء والأهل، وذلك لما شرفه الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم بالإذن في فعل العبادات والطاعات. فهل فعل الطاعات يعد لهذا الروحاني من الصبر على المكروهات الكامنة في أعماق الإنسان؟ أين نحن من هؤلاء العباد المنقادون للحق تبارك وتعالى؟

وما ورد في أئمة الهدى أو الأنبياء العظام من نعتهم بالصبر، فمن المحتمل أنه من الصبر على الآلام الجسدية التي تحصل حسب طبيعة الإنسان، أو هو من الصبر على فراق الأحبة وهو حينئذٍ من المقامات الكبيرة للمحبين.

وأما الصبر على الطاعات أو المعاصي أو المصائب عدا ما ذكرنا من الآلام الجسدية  فلا معنى له في حقهم ولا في حق شيعتهم.

درجات الصبر
إن المفهوم من الأحاديث الشريفة أن للصبر درجات، ويختلف الأجر والثواب بحسب الدرجة كما في الرواية عن مولى المتقين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:"قال رسول الله صلى الله عليه وآله الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش"2.

ويفهم من هذا الحديث أن الصبر على المعصية أفضل من كل مراتب الصبر حيث تكون درجاته أكثر والفواصل بين درجاته كبيرة جداً. ويفهم أيضاً أن مساحة الجنة أوسع مما في أوهامنا نحن المحجوبين والمقيدين.

ولعل ما ورد في تحديد الجنة من قوله تعالى: ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ(آل عمران:133) عائد إلى جنة الأعمال.

وما ورد في الحديث "جنة الأخلاق"، والمقياس في جنة الأخلاق، قوة الإرادة وكمالها، وهي غير محدودة بحد.

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله سيأتي على الناس زمان لا يُنال فيه المُلك إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالغضب والبخل، ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البِغضة وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدرعلى العز، أتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممن صدّق بي" 3.

نتائج الصبر
إن للصبر نتائج كثيرة فهو مفتاح أبواب السعادات،و باعث للنجاة من المهالك، يهون المصائب ويخفف الصعاب، ويقوي العزم والإرادة، ويبعث على استقلالية مملكة الروح.

إن من نتائج الصبر ترويض النفس وتربيتها،، فإذا صبر الإنسان حيناً من الوقت على مصائب الدهر، وعلى مشاق العبادات والمناسك، وعلى مرارة ترك الملذات النفسية امتثالاً لأوامر ولي النعم، وتحمل الصعاب مهما كانت شديدة، تروضت النفس شيئاً فشيئاً واعتادت وتخلت عن طغيانها وتذللت الصعاب وحصلت للنفس صفات راسخة نورية، بها يتجاوز الإنسان مقام الصبر ليبلغ المقامات الأخرى الشامخة.

ولكل درجة من درجات الصبر فائدة خاصة: فالصبر على المعصية يبعث على تقوى النفس، والصبر على الطاعة يسبب الاستيناس بالحق عز وجل، والصبر على البلايا يوجب الرضا بالقضاء الإلهي. وكل ذلك من المقامات الشامخة لأهل الإيمان العارفين بالله سبحانه وتعالى.

وللصبر في الآخرة ثواب جزيل وأجر جميل، كما ورد في الحديث: "وطنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا".

وورد في الحديث الشريف: "من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد"4.

ويتجسد الصبر في الآخرة بصورة بهية شريفة، ففي الرواية عن الصادق عليه السلام: "إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مطل عليه ويتنحى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم فإن عجزتم منه فأنا دونه"5.

وأما الفزع والجزع فمضافاً إلى أنه بنفسه عيب، وكاشف عن الضعف في النفس، يجعل الإنسان مضطرباً والإرادة ضعيفة والعقل موهوناً.

درجات أهل المعرفة
إن ما ذكرناه إلى الآن يعود إلى عامة الناس المتوسطين، ولكن للصبر درجات أخرى ترجع إلى الكملين العارفين بالله، الأولياء الصالحين، ومن هذه الدرجات:

- الصبر في الله: وهو الثبات في المجاهدة وترك ما هو متعارف لدى الناس ومألوف عندهم، بل ترك نفسه في سبيل الحبيب.

- الصبر مع الله: وهو خاص بالذين قد تجردوا عن خصوصياتهم المادية، و ذاب قلبهم في الله وصار محط أنواره، حتى غرق في الأنس من جهة والهيبة من جهة أخرى، حفظ نفسه عن التوجهات المتعددة، حتى لم تعد ترى إلا شيئاً واحداً وهو الله سبحانه وتعالى.

- الصبر عن الله: وهو من درجات عشاق الله والمشتاقين من أهل معرفته الذين شاهدوا جماله تعالى ببصيرة القلوب، فهم يشكون من فراق المولى والحبيب، وهو من أصعب مراتب الصبر، وقد أشار إلى هذه المرتبة مولى السالكين وإمام الكملين وأمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل: "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك".

- الصبر بالله: وهو لأهل الاستقامة، حيث يحصل بعد الصحو والبقاء بالله، وبعد التخلق بأخلاق الله، ولانصيب فيه إلا للكمّلين.

وحيث أنه لاحظ لنا في هذه المراتب ولا نصيب، لم نتطرق في هذه الأوراق لشرحها بالتفصيل.
 

*الأخلاق من (الأربعون حديثاً)،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية،ط 2 ،2007م ،ص179-184

1- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، حديث 6.
2- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، الحديث 15.
3- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، حديث 12.
4- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، حديث 17.
5- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، حديث 8.
2009-08-04