يتم التحميل...

حب الدنيا يبعد عن الله من (الأربعون حديثاً)

العلاقة مع الله

عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه، جعل الله الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه، جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره".

عدد الزوار: 21

عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه، جعل الله الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه، جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره".

معنى الدنيا:

إن للدنيا معانٍ عديدة ومختلفة تستعمل فيها عادة، وليس المهم بحث تلك المعاني والتعرف عليها الآن وإنما المهم معرفة الدنيا المضرة التي يجب على الإنسان أن يحذرها ويبتعد عنها، هناك عدة تفسيرات وآراء في معنى الدنيا هذه، منها:

1- الدنيا هي مجموع الأمور التي تبعد عن الله سبحانه وتعالى كالأعمال المبتدعة والأعمال الريائية، حتى وإن كانت مع الترهب وأنواع المشقة، فإنها من الدنيا لأنها مما يبعد عن الله، وبعكسها الآخرة التي هي كل الأمور التي تقرب من الله سبحانه وتعالى، كالتجارات والصناعات والزراعات التي يكون المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال امتثالاً لأمر الله تعالى، وصرفها في وجوه البر وإعانة المحتاجين، والصدقات، وصون الوجه عن السؤال، وأمثال ذلك، فإن هذه كلها من أعمال الآخرة وإن كانت عامة الناس يعدونها من الدنيا.

2- الدنيا والآخرة عبارة عن حالتين من أحوال القلب، فالقريب الداني يسمى الدنيا، وهوما كان قبل الموت فيشمل كل ما فيه نصيب وغرض وشهوة ولذة في العاجل قبل الوفاة، والمتأخر يسمى آخرة، وهو كل ما بعد الموت.

3- ما رجحه الإمام الخميني قدس سره، حيث ذكر أن الدنيا تطلق على نشأة الوجود النازلة، والتي هي دار تصرّم وتغير ومجاز، وهو ما يسمى بمقام الظهور والملك والشهود، والاخرة تطلق على النشأة الصاعدة التي تسمى "المقام الباطني والملكوت الغيبي"، ورغم كون هذه المرتبة فيها الكثير من الثغرات والنواقص وتعتبر أسفل مراتب الوجود، إلا أنها مهد تربية النفوس القدسية، ودار تحصيل المقامات العالية ومزرعة الآخرة فهي المغنم الأفضل عند الأولياء.

ما هو المذموم من الدنيا:

الدنيا بالمعنى الذي شرحناه ليست هي مذمومة وقبيحة من جهة نوعها، ولا هي كذلك من جهة قلتها وكثرتها، بل القبيح هو انشداد القلب نحوها ومحبتها.

إذن فنحن أمام نوعين من الدنيا:

1- دنيا ممدوحة ومحببة والمقصود منها الحصول على هذه النشأة والمرتبة من الوجود، حيث أنها مكان التجارة لنيل المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبدية سعيدة كما جاء في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام: "إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله. اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة...".

وقد قال تعالى عنها في القرآن الكريم ﴿... َلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾(النحل:30) فقد ورد في تفسير العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام أنها الدنيا.

2- دنيا مذمومة والمقصود بها دنيا الإنسان نفسه حيث يتعلق بها ويحبها حتى تصبح منشأ كل المفاسد والخطايا النفسية والعملية. وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "رأس كل خطيئة حب الدنيا".

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام: "ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راعٍ هذا في أولها وهذا في آخرها بأسرع فيها من حب المال والشرف في دين المؤمن".

وكلما زاد تعلق القلب بها كلما اشتد الحجاب بين الإنسان ودار الكرامة وبين القلب والحق سبحانه وتعالى وقد جاء في الأحاديث أن لله سبعين ألف حجاب من النور والظلمة، ولعل المقصود من حجب الظلمة هو هذه الميول والتعلقات القلبية نحو الدنيا، فكلما كان التعلق بالدنيا أقوى كان عدد الحجب أكبر، وكلما كان أشد كانت الحجب أغلظ واختراقها صعب.

سبب ازدياد حب الدنيا:

إننا نجد أن الإنسان بشكل عام يحب هذه الدنيا ويتعلق بها إلى درجة قد يصعب عليه فراقها وتركها إلى الآخرة، وهناك عدة عوامل تتسبب بهذا الحب والتعلق وزيادته عند الإنسان بشكل تدريجي، ويمكن اختصار هذه العوامل بما يلي:

1- إن الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعية، وهي أمه، فهو ابن هذا الماء والتراب، فحب هذه الدنيا سيكون مغروساً بقلبه منذ نشوئه ونموه، وكلما كبر في العمر، كبر هذا الحب في قلبه ونما.

2- إن الله تعالى قد وهب الإنسان قوى شهوانية ووسائل تلذذ ضرورية للحفاظ على ذاته ونوعه، والغافل قد يرى الدنيا دار اللذات وإشباع الرغبات، ويرى في الموت قاطعاً لتلك اللذات، حتى لو اقتنع عقلياً بوجود عالماً أخرويا من خلال الأدلة العقلية أو إخبار الأنبياء، فإن قلبه سيبقى غافلاً لم يطلع على عالم الآخرة ليعرف حالاته وكمالاته، فلن يتقبله هذا القلب ولن يصل إلى مرتبة الاطمئنان، ولهذا يزداد حبه وتعلقه بهذه الدنيا.

3- إن حب البقاء فطري في الإنسان، فهو بفطرته يكره الزوال والفناء، وهو وإن آمن عقله بأن هذه الدنيا دار فناء ودار ممر، وأن الآخرة هي دار البقاء، فمادام هذا الإيمان لم يصلإلى القلب ليصل القلب إلى مرحلة الاطمئنان، سيبقى يتعاطى مع الموت وكأنه فناء وزوال وسيميل بفطرته إلى الدنيا والبقاء فيها.

فلو أدركت القلوب أن هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنها دار الفناء والزوال، وأنها دار النقص، وأن العوالم الأخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وأبدية، وأنها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور، لحصل فيها بالفطرة حب تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا، واشتاقت للتخلص من هذا السجن المظلم. كما كان يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه".

ذلك لأنه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا، فلا يؤثر على مجاورة رحمة الله المتعالي شي‏ء أبداً.

إن أكثر أنين الأولياء إنما هو من ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته كما أشاروا إلى ذلك بأنفسهم في مناجاتهم، على الرغم من أنهم لا يحجبهم حجاب ملكي أو ملكوتي، وقد اجتازوا جحيم الطبيعة الذي كان خامداً غير مستعر، لكن وجودهم في هذه الطبيعة يعتبر تلذذا قسرياً طبيعياً  حتى وإن كان بأقل قدر ممكن  ويعد ذلك حجاباً، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وآله: "لَيُران على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة".

ولعل خطيئة آدم أبي البشر عليه السلام نجمت عن هذا التوجه القسري نحو الحاجات الطبيعية الاضطرارية إلى القمح وسائرالأمور الطبيعية، وهذه خطيئة بالنسبة لأولياء الله والمنجذبين إليه.

تأثير المكتسبات الدنيوية على القلب:

إن كل ما يكسبه الإنسان ويناله في هذه الدنيا يترك أثراً طبيعياً في القلب، وهو السبب في تعلقه بالدنيا، وكلما ازداد التلذذ بالدنيا اشتد تأثر القلب وتعلقه بها وحبه لها إلى أن يتجه القلب كلياً نحو الدنيا وزخارفها. إن جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيئات سببها هذا الحب. وقد جاء في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام: "مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله"..

ولنلفت إلى بعض النماذج من مفاسد حب الدنيا:

1- من المفاسد الكبيرة لحب الدنيا  كما كان يقول أحد العرفاء  أنه حين ينطبع حب الدنيا على صفحة قلب الإنسان، ويشتد الأنس بها، ينكشف له عند الموت أن الحق المتعالي يفصل بينه وبين محبوبه ويفرق بينه وبين مطلوبه، فيغادر الدنيا ساخطاً مغتاظاً على ولي نعمته! فعلى الإنسان أن يستيقظ ويتنبه للحفاظ على قلبه.

2-
من المفاسد أيضاً أن الإنسان يصل إلى حالة الخوف من الموت، نتيجة تعلق قلبه بالدنيا، فهو يخاف ترك محبوبه! وهذا يختلف عن الخوف الناشئ من المآل ومصير الإنسان في الآخرة فهو من صفات المؤمنين.

3-
على فرض أن هذا الإنسان لم يرتكب شيئاً من هذه المعاصي وهو افتراض بعيد جداً، بل ومستحيل عادة  فإن التعلق بالدنيا نفسه معصية.

4-
من المفاسد أن حب الدنيا يمنع الإنسان من العبادات والمناسك والرياضات الروحية ويقوي جانب الطبيعة فيه بحيث يجعلها تعصي الروح وتتمرد عليها وتضعف عزم الإنسان وإرادته فيضيع أثر وسر العبادات ألا وهو انقياد القوى الطبيعية للروح والجسم للإرادة، ويصبح ملك الجسم وقواه الظاهرة مقهوراً ومسخراً للملكوت بحيث يقوم بما يريد.

فحب الدنيا إذن ينتهي بالإنسان إلى الهلاك الأبدي، وهو أصل البلايا والسيئات الباطنية والظاهرية. وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إن الدرهم والدينار أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم".

*الأخلاق من (الأربعون حديثاً)،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية،ط 2 ،2007م ،ص51-55

2009-08-04