يتم التحميل...

التأثير المتقابل بين الأخلاق والسلوك

مقدمات في الأخلاق

علاقة الأخلاق والعمل، وتأثير الأخلاق في السّلوك أمر لا يخفى على أحد، لأنّ الأعمال عادةً تنبع من الصّفات الداخليّة في النّفس الإنسانية، فالشّخص الذي تسيطر حالة البخل والحسد والكِبْر على قلبه وفكره وروحه، فمن الطّبيعي أن تكون أعماله على نفس الشّاكلة، فالحسود يتحرك في أعماله دائماً من موضع هذه الخصلة الذميمة...

عدد الزوار: 26

علاقة الأخلاق والعمل، وتأثير الأخلاق في السّلوك أمر لا يخفى على أحد، لأنّ الأعمال عادةً تنبع من الصّفات الداخليّة في النّفس الإنسانية، فالشّخص الذي تسيطر حالة البخل والحسد والكِبْر على قلبه وفكره وروحه، فمن الطّبيعي أن تكون أعماله على نفس الشّاكلة، فالحسود يتحرك في أعماله دائماً من موضع هذه الخصلة الذميمة، التي هي كالشّعلة المتّقدة في روحه، تسلب الرّاحة منه، وكذلك الأفراد المتكبرين، مشيتهم وكلامهم وقيامهم وقعودهم، كلّها تعطي حالة الغرور فيهم، وتشير إلى روح التَّكبر في نفوسهم، وهذا الحكم يشمل الصفات، والأخلاقيّة الصّالحة والطالحة على السّواء. ولأجل ذلك، يعتبر بعض المحقّقين مثل هذه الأعمال، أعمالاً أخلاقية، يعني أعمال تنشأ من الأخلاق الصّالحة والطّالحة بصورة بحتة، وفي مقابل الأعمال التي تصدر أحياناً من الإنسان، تحت تأثير الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والإرشاد والنّصح مثلاً، من دون أن يكون لها جذر أخلاقي، وطبعاً مثل هذه الأعمال تعتبر أقلّ بالنسبة للأعمال الأخلاقيّة.

وهنا يمكن أن نستنتج، أنّه ولأجل إصلاح المجتمع وإصلاح أعمال الناس، يتوجب علينا إصلاح جذور الأعمال الأخلاقيّة، لأنّ أغلب الأعمال تعتمد على الجذور الأخلاقيّة، وعلى هذا كان أكثر سعي الأنبياء عليهم السلام والمصلحين الإجتماعيين الإسلاميين، يصبّ في هذا السبيل، لأنّه وبالتّربية الصّحيحة، تنمووتتبلور الفضائل الأخلاقيّة في كلّ فرد من أفراد المجتمع، وتصل الرذائل إلى أدنى الحدود، وبذلك يمكن إصلاح الأعمال التي تترشح من الصّفات الأخلاقيّة، والإشارة في بعض الآيات القرآنية إلى "التّزكية"، تصبّ في هذا المصب أيضاً، هذا من جهة: ومن جهة اُخرى، أنّ التّكرار لفعل ما يمكن أن يكون له الأثر في تكوين الأخلاق، لأنّ كلّ فعل يفعله الإنسان سيؤثر في روحه ونفسه، وسيعمِّق ذلك الأثر حتى يصبح عادةً، وإذا تكرّر بصورة أكبر فسيتعدّى مرحلة العادة، ويتبدّل إلى "مَلَكة" و"حالة"، تدخل في الخصوصيّات الأخلاقيّة للإنسان. وعلى ذلك، فإنّ العمل والأخلاق لهما تأثيرٌ مُتقابل، ويمكن أن يكون أحدهما سبباً للآخر. ولهذه المسألة شواهدٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم منه:

1-
في الآية (14) من سورة "المطفّفين"، وبعد الإشارة إلى الصفات القبيحة لطائفة من أهل النار، والمعذبين، قال الله تعالى: ﴿كَلاّ بَل رانَ عَلى قُلُوبِهِم ما كَانُوا يَكْسِبُونَ. وهذه الآية دليلٌ على أنّ الأعمال القبيحة تجثم على القلب، كما يجثم الصّدأ على الحديد، وتُزيل النّور والصّفاء الفطري الدّاخلي للإنسان وتُطفئهُ، وتصوغه بقالبها.

2- في الآية (81) من سورة البقرة قال الله تعالى: ﴿بَلى مَن كَسَبَ سَيّئةً وَأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَاُولئِكَ أصحابِ النّارِ هُم فِيها خالِدُونَ. والقصد من الإحاطة للخطيئة، هوتراكم إفرازات الخطيئة في نفس الإنسان حتى تصل النّفس إلى مرحلة الختم، والطّبع، وتتطبّع بالذنوب، فلا يُفيد فيها النّصح والموعظة ولا الإرشاد، وكأنّه قد تغيّرت ماهيّة ذلك الإنسان، وصفاته الإخلاقية في واقعه النفسي، بل وبالإصرار على الذّنوب، فإن المعتقدات الدينيّة للفرد ستطالها يد التّغيير أيضاً. كما وأشارت الآية (7) من سورة البقرة الواردة في بعض الكفار المعاندين، إلى هذا المعنى أيضاً، حيث تقول: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَعَلَى سَمعِهِم وَعَلى أَبصارِهِم غِشاوةٌ وَلَهُم عَذابٌ عَظِيمٌ.

ومن الواضح أنّ الباري تعالى شأنه: لا يتعامل مع أحد من الناس من موقع العداوة والخُصومة، ولكنّ الواقع أنّ آثار أعمال الناس هي التي تضع الحُجب والحواجز على الحواسّ، فلا تُدرك الحقيقة، (ونسبة هذه الاُمور للباري تعالى، إنّما هولأجل أنّ الله تعالى هومُسبّب الأسباب وكلّ شيء إنّما يصدر عن ذاته المقدّسة). وفي الآية (10) من سورة "الرّوم" يتعدى ذلك ويقول الله تعالى: إنّ الأفعال السيّئة تغيّر عقيدة الإنسان وتُؤدي به إلى الحضيض: ﴿ثُمَّ كَانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ أساءوا السُّوأى أنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَ كَانُوا بِها يَستهزءُونَ.

ومنها يتبيّن أنّ الأعمال والصّفات القبيحة وإرتكاب الذنوب، إذا ما أصرّ وإستمرّ عليها الإنسان، ستمتد إلى أعماق نفس الإنسان، ولا تؤثّر على أخلاقه فحسب، بل تقلب عقائده رأساً على عقب أيضاً. ونقرأ في آية اُخرى من القرآن الكريم: أنّ الإصرار على الذنب وتكراره وسوء العمل، يُميت عند الإنسان حسّ الّتمييز والتّشخيص، بحيث يرى الحسن قبيحاً والقبيح حَسناً، فنقرأ في الآية (103-104) من سورة الكهف حيث تقول: ﴿هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخسَرِينَ أَعمالا الّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَهُم يَحْسِبُونَ أَنّهُم يُحْسِنُونَ صُنعاً.

3-
وفي آية اُخرى يصرح القرآن الكريم بأن الإصرار على الكذب وخُلف الوعد مع الله سبحانه، سيورث الإنسان صفة النّفاق في قلبه، فيقول الله تعالى: ﴿فأَعقَبَهُم نِفاقاً فِي قُلُوبِهِم إلى يَومِ يَلقَونَهُ بِما أَخلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كَانُوا يَكذِبُونَ. ويعلم القاري الكريم أنّ (يكذبون): هوفعل مضارع ويدل على الإستمرار، حيث يُبيّن تأثير هذا العمل السّيء وهوالكذب في ظهور روح النّفاق لأننا نعلم أنّ الكذب وخاصّةً في لباس الإنسان الصادق، ليس هوإلاّ إختلاف الظّاهر والبّاطن، والنّفاق الباطني هوتبديل هذه الحالة إلى ملكة.

التّأثير المتقابل للأخلاق والعمل في الأحاديث الإسلاميّة

الحقيقة أنّ الأعمال الصالحة والطالحة تؤثر في روح الإنسان وتبلورها، وتحكّم الخلق السيّ، والحسن فيها، ولهذا الأمر صدىً واسعاً في الأحاديث الإسلاميّة، ونذكر منها هذه الأحاديث الثلاثة الآتية:

1- نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: كان أبي يقول: "ما مِن شيء أفسدُ لِلقلَبِ مِن خَطيئة، إنّ القَلبَ ليُواقِع الخَطِيئةَ فَما تَزالُ بِهِ حتّى تَغلِبَ عَلَيهِ فَيَصِيرَ أعلاهُ أسفله"1.طبعاً هذا الحديث، أكثر ما ينظر إلى تحول وتغيّر الأفكار وتأثّرها بالذنّوب، ولكن وبصورة كليّة، فهويبيّن تأثير الذّنوب في تغيير روح الإنسان.

2-
في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أذنَبَ الرّجلُ خَرَجَ في قَلبِهِ نُكتَةٌ سَوداءٌ، فإنْ تَابَ إنمَحَتْ وَإنْ زَادَ زادَتْ، حتّى تَغلِبَ عَلى قَلبِهِ، فَلا يَفلِحُ بَعدَها أبداً"2. ولأجل ذلك نبّهت الأحاديث الإسلاميّة على خطورة الإصرار على الذّنب، وأنّ الإصرار على الذّنوب الصّغيرة يتحول إلى الكبائر3. وجاء هذا المعنى في الحديث المعروف، عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام، في معرض جوابه للمأمون، وفيه تبيان كُلّي حول مسائل الحلال والحرام، والفرائض والسّنن، فمن المسائل التي أكّد عليها الإمام عليه السلام، هوأنّه جعل الأصرار على الذّنب، من الذّنوب الكبيرة4.

3-
جاء في كتاب (الخصال)، عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، أنّه قال: "أربعُ خِصال يُمِتْنَ القَلبَ: الذَّنبُ عَلَى الذَّنبِ...".5 وجاء مُشابه لهذا المعنى في تفسير "الدُّر المنثور"6. هذه التّعبير يوضّح جيّداً أنّ تكرار عمل ما، له تأثير في قلب وروح الإنسان بصورة قطعية، ويصبح مصدراً لتكوين الصّفات: الرّذيلة والقبيحة، ولأجل ذلك جاءت الأوامر للمؤمن إذا ما أذنب وأخطأ، بالتّوبة السّريعة، ليمحي آثارها من القلب، ولئلاّ تصبح عنده على شكل "حالة" و"مَلكة" وصفة باطنيّة، فجاء في الأحاديث الشّريفة، أنّه يتوجب على الإنسان أن يجلوالصّدأ من على قلبه، كما نقرأ في الحديث عن الرّسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم: "إنّ القُلُوبَ لَتَرِينُ كَما يَرِينُ السّيفُ، وَ جَلاؤها الحَدِيثُ".

*الأخلاق في القرآن،آية الله مكارم الشيرازي،مدرسة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام-قم،ط2،ج1،ص57-61


1- أصول الكافي، ج 12، بابّ الذّنوب، ح 1 ص 268.
2- المصدر السابق، ج13، ص271.
3- بحار الأنوار، ج1، 351.
4- المصدر الساق، ص366.
5- الخصال، ج1، ص252.
6- الدر المنثور، ج6، ص326.

2009-07-29