يتم التحميل...

من المظالم: تحقير المؤمنين

مفاهيم قرآنية

وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ.وَاصْبِرْ نَفْسَكَ1 مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ...

عدد الزوار: 22

﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ(الانعام:52).

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ1 مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(الكهف:28).

قصة الآية
ورد في كتب التفسير في بيان سبب نزول الآيات أنه كان بالمدينة قوم فقراء مؤمنون يسمون أصحاب الصفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن يكونوا في صفة يأوون إليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعاهدهم بنفسه، وربما حمل إليهم ما يأكلون، وكانوا يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقربهم ويقعد معهم ويؤنسهم، وكان إذا جاء الأغنياء والمترفون من أصحابه ينكروا عليه ذلك، و يقولوا له: اطردهم عنك، فجاء يوماً رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده رجل من أصحاب الصفة قد لزق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورسول الله يحدثه، فقعد الأنصاري بالبعد منهما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تقدم فلم يفعل فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعلك خفت أن يلزق فقره بك؟ فقال الأنصاري: اطرد هؤلاء عنك، فأنزل الله: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم"2.

وورد في في بيان سبب نزول الآية الثانية: أنه جاء الأقرع علي بن حابس التميمي، وعيينة بن حصين الفزاري، وذووهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعدا مع بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، في ناس من ضعفاء المؤمنين، فحقروهم، وقالوا: يا رسول الله ! لو نحيت هؤلاء عنك، حتى نخلو بك، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد، ثم إذا انصرفنا، فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك ! فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك، فقالا له: أكتب لنا بهذا على نفسك كتابا، فدعا بصحيفة وأحضر عليا ليكتب، قال: ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبرائيل عليه السلام بقوله (ولا تطرد الذين يدعون) إلى قوله ( أليس الله بأعلم بالشاكرين) فنحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيفة، وأقبل علينا، ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) الآية. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقعد معنا، ويدنو حتى كادت ركبتنا تمس ركبته، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه، حتى يقوم، وقال لنا: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا، ومعكم الممات3.

أولا: تحقير المؤمن ظلم
من الأمراًض الأخلاقية التي قد يُبتلى بها الإنسان المؤمن أن يعيش حالة من التحقير للمؤمنين متفضلاً عليهم بما يراه في نفسه مما يفتقده غيره. وقد ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حسب ابن آدم من الشر أن يحقر أخاه المسلم4.

بل من عظم هذا الذنب أن جعل الله عز وجل تحقير المؤمن في حد محاربة الله عز وجل ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: قال الله عز وجل: ليأذن بحرب مني من أذل عبدي المؤمن5.

ثانيا: عقوبة تحقير المؤمن
نظرا لعظم هذا الذنب عند الله عز وجل فإنّ ما ورد في الروايات من بيان لعقوبة هذا الذنب والآثار التكوينية المترتبة عليه عظيم جدا فلنلحظ هذه الروايات:

أ- الرد من الله
إذا وقع الإنسان في ذنب تحقير المؤمن، فإن الرد على ذلك سوف يكون من الله عز وجل، وذلك لأن المؤمن قد لا يستطيع أن ينتصر لنفسه ممن حقّره، فيكون العقاب إلهياً، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: من حقر مؤمناً مسكيناً لم يزل الله، له حاقراً ماقتاً حتى يرجع عن محقرته إياه6.

ب- الفضيحة والتشهير
من العقوبات التي ينالها من يُمارس التحقير بالناس أن ينقلب الأمر عليه، وذلك بفضيحة الله عز وجل له على فعله ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من استذل مؤمنا أو مؤمنة، أو حقره لفقره أو قلة ذات يده، شهره الله تعالى يوم القيامة ثم يفضحه7.

وهكذا نشهد كيف ان الروايات تجعل العقوبة من الله عز وجل، حيث يكون الانتقام والانتصار للمؤمن من الله عز وجل مباشرة، فقد ورد في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى يقول: من أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي8.

ثالثا: كيف نعالج هذا المرض الأخلاقي؟
كما بيّنت الرواية عظم هذا المرض الأخلاقي، وضرورة تجنّبه، بينّت الروايات طرق علاجه، وكيفية الخلاص منه، وهذه الطرق تتمثل بالتالي:

أ- العبودية المشتركة
إذا تأمل الإنسان قليلاً في الشخص الذي يحتقره فسوف يجد أنه يشترك معه في العبودية لله عز وجل فما معنى أن يحتقره، لا بد وأن يكون احتقاره له لأمر غير صحيح، ففي الرواية عن لقمان عليه السلام لابنه: يا بني لا تحقرن أحداً بخلقان ثيابه، فإن ربك وربه واحد9.

ب- الخطأ في معيار التفضيل
من الأسباب التي تؤدّي إلى وقوع الإنسان في هذا المرض الأخلاقي، الخطأ في معيار التفضيل، فهو يرى لنفسه من الصفات ما يجعله يعتقد نفسه أفضل من الغير، فيبدأ بتحقير ذلك الغير، مع أن واقع الحال أن ذلك الغير أفضل منه، ولو وضع الإنسان في باله دائماً هذا الاحتمال لأمكنه أن يحذر من الوقوع في هذه المعصية، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يزرأن أحدكم بأحد من خلق الله فإنه لا يدري أيهم ولي الله10.

ج- القيمة الحقيقية هي عند الله
إن القيمة الحقيقية للإنسان هي عند الله عز وجل، فإذا كان الإنسان عند الله كبيرا، فهذا هو الذي له حق أن يكون محلاً للاحترام، وتحقيره يكون خللاً وخطأً، فإذا كانت قيمة الإنسان عند الله عز وجل بإيمانه، فلا ينبغي أن يحقر مؤمناً، لأن هذا المؤمن يكون كبيراً عند الله، ففي الرواية: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحقرن أحداً من المسلمين، فإن صغيرهم عند الله كبير11.

كيف وقد جعل الله الإيمان من أعظم الكرامات، فكيف يقوم الإنسان بتحقير غيره وهو من أهل الإيمان ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: ما خلق الله عز وجل خلقا أكرم على الله عز وجل من المؤمن لأن الملائكة خدام المؤمنين12.

بل كيف تحتقر المؤمن وأنت تدرك عظمة هذا المؤمن عند الله، وهي أعظم من عظمة الكعبة المشرفة بيت الله عز وجل ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى الكعبة فقال: مرحباً بالبيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك على الله؟ ! والله للمؤمن أعظم حرمةً منك لأن الله حرم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة: ماله، ودمه، وأن يظن به ظن السوء13.

للمطالعة
معايير التقييم

من القضايا المهمة في حياة الأفراد والمجتمعات هي قضية " معايير التقييم " و " نظام القيم " الذي يتحكم بثقافة ذلك المجتمع. لأن كل الحركات الصادرة عن الأفراد والجماعات في حياتهم إنما تنبع من هذا النظام وتهدف إلى خلق تلك القيم. واشتباه قوم من الأقوام وأمة من الأمم في هذه القضية والتعامل بقيم خيالية لا أساس لها قد يؤدي إلى طبع تأريخهم بطابع الغرور. عبيد الدنيا المغرورون يتصورون بأن القيم تنحصر فقط في المال والقدرة المادية والتعداد البشري، وهناك نماذج كثيرة من هذا القبيل تلاحظ في القرآن الكريم، منها:

1- فرعون، الطاغية المتجبر، الذي كان يقول لمن حوله بأنه لا يصدق أن موسى عليه السلام رسول من الله، فإن كان حقاً ما يقول فلم لم يعطه الله سواراً من الذهب فلولا القي عليه أسورة من ذهب. وحتى انه يرى عدمها دليل على المهانة والدونية، فيقول: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين.

2- مشركو عصر الرسالة المحمدية، تعجبوا من نزول القرآن على رجل فقير كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم.

3- بنو إسراًئيل اعترضوا على نبي زمانهم " أشموئيل " في قضية انتخاب" طالوت " كقائد للجيش وقالوا: نحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال.

4- مشركو زمان نوح عليه السلام الأثرياء اعترضوا عليه بأن اتبعه أراذلهم، وهم الفقراء في نظرهم قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون.

5- أثرياء مكة أوردوا نفس هذا الاعتراض على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم: لقد أحاط بك الحفاة، ونحن نشمأز حتى من رائحتهم، فلا نتبعك إلا بابتعادهم عنك. لهذه الأسباب، كان أول عمل إصلاحي يقوم به الأنبياء هو تحطيم أطر التقييم الكاذبة تلك، واستبدالها بالقيم الإلهية الأصيلة والقيام ب‍ "ثورة ثقافية"أبدلوا أساس الشخصية ومحورها من الأموال والأولاد والثروة والجاه والشهرة القبلية والعائلة إلى التقوى والإيمان والعمل الصالح. فليس هناك شيء غير التقوى، والإيمان المقترن بالشعور بالمسؤولية، وصلاح العمل، ليس سوى ذلك معياراً لتقييم شخصية الإنسان وقربه من الله تعالى. وكل من كان له نصيب أكبر من ذلك كان إلى الله أقرب وعنده أكرم14.

*منازل الآيات، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، نيسان2009، ص79-85.


1- المعنى: احبس تفسك وكن معهم.
2- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 17 ص 81-82
3- تفسير مجمع البيان الشيخ الطبرسي ج 4 ص 62.
4- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 1 ص 652.
5- ثواب الأعمال الشيخ الصدوق ص 238.
6- الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 351.
7- وسائل الشيعة (آل البيت) الحر العاملي ج 12 ص 267.
8- الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 351.
9- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 69 ص 47.
10- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 72 ص 147.
11- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 1 ص 652.
12- الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 33.
13- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 64 ص 71.
14- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج 13 ص 464-466.

2011-03-21