يتم التحميل...

صيغ السنن التاريخية

فكر الشهيد الصدر

في هذا الشكل تتمثّل السنّة التاريخيّة في قضيّة شرطيّة، تربط بين حادثتين، أو مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخيّة، وتؤكّد العلاقة الموضوعيّة بين الشرط والجزاء، وأنّه متى ما تحقّق الشرط تحقّق الجزاء.

عدد الزوار: 45

1 ـ شكل القضيّة الشرطيّة

في هذا الشكل تتمثّل السنّة التاريخيّة في قضيّة شرطيّة، تربط بين حادثتين، أو مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخيّة، وتؤكّد العلاقة الموضوعيّة بين الشرط والجزاء، وأنّه متى ما تحقّق الشرط تحقّق الجزاء.

وهذه صياغة نجدها في كثيرٍ من القوانين والسُنن الطبيعيّة والكونيّة، في مختلف الساحات الأخرى.

فمثلاً حينما نتحدّث عن قانونٍ طبيعيّ لغليان الماء، نتحدّث بلغة القضيّة الشرطيّة، نقول بأنّ الماء إذا تعرّض إلى الحرارة، وبلغت الحرارة درجةً معيّنةً، مائة مثلاً، في مستوى معيّنٍ من الضغط، حينئذٍ سوف يحدث الغليان. هذا قانونٌ طبيعيٌّ، يربط بين الشرط والجزاء، ويؤكّد أنّ حالة التعرّض إلى الحرارة، ضمن مواصفاتٍ معيّنةٍ، تذكر في طرف الشرط، تستتبع حادثةً طبيعيّةً معيّنةً، وهي غليان هذا الماء، تحوّل هذا الماء من سائل إلى غاز. هذا القانون مصاغٌ على نهج القضيّة الشرطيّة.

ومن الواضح أنّ هذا القانون الطبيعيّ، لا ينبّئنا شيئاً عن تحقّق الشرط وعدم تحقّقه، لا ينبّئنا هذا القانون الطبيعيّ عن الماء هل سوف يتعرّض للحرارة، أو لا يتعرّض للحرارة؟ هل أنّ حرارة الماء ترتفع إلى الدرجة المطلوبة ضمن هذا القانون، أو لا ترتفع؟ هذا القانون لا يتعرّض إلى مدى وجود الشرط وعدم وجوده، ولا ينبّئنا بشيءٍ عن تحقّق الشرط إيجاباً أو سلباً، وإنّما ينبّئنا عن أنّ الجزاء لا ينفكّ عن الشرط، متى ما وُجد الشرط وُجد الجزاء، فالغليان نتيجةٌ مرتبطةٌ موضوعيّاً بالشرط.


دور هذه القوانين

مثل هذه القوانين تقدّم خدمةً كبيرةً للإنسان في حياته الاعتياديّة، وتلعب دوراً عظيماً في توجيه الإنسان، لأنّ الإنسان ضمن تعرّفه إلى هذه القوانين، يصبح بإمكانه أن يتصرّف بالنسبة إلى الجزاء، ففي كلّ حالةٍ يرى أنّه بحاجةٍ إلى الجزاء، يُعمل هذا القانون، يوفّر شروط هذا القانون، وفي كلّ حالةٍ يكون الجزاء متعارضاً مع مصالحه ومشاعره، يحاول الحيلولة دون توفّر شروط هذا القانون، ومتى ما كان غليان الماء مقصوداً للإنسان، يطبق شروط هذا القانون، ومتى لم يكن مقصوداً للإنسان، يحاول أن لا تطّبق شروط هذا القانون.

إذاً القانون الموضوع بنهج القضيّة الشرطيّة، موجّه عمليّ للإنسان في حياته.

الحكمة من صياغة النظام على شكل قوانين

ومن هنا تتجلّى حكمة الله سبحانه وتعالى في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين، وعلى مستوى الروابط المطّردة والسُنن الثابتة، لأنّ صياغة الكون ضمن روابط مطّردة وعلاقات ثابتة، هو الذي يجعل الإنسان يتعرّف إلى موضع قدميه، وإلى الوسائل التي يجب أن يسلكها في سبيل تكييف بيئته وحياته، والوصول إلى إشباع حاجته. لو أنّ الغليان في الماء كان يحدث صدفةً، ومن دون رابطةٍ قانونيّة مطردةٍ مع حادثةٍ أخرى كالحرارة، إذاً لما استطاع الإنسان أن يتحكّم في هذه الظاهرة، أن يخلق هذه الظاهرة متى ما كانت حياته بحاجةٍ إليها، وأن يتفاداها متى ما كانت حياته بحاجةٍ إلى تفاديها، إنّما كان له هذه القدرة باعتبار أنّ هذه الظاهرة وضعت في موضعٍ ثابتٍ من سُنن الكون، وطرح على الإنسان القانون الطبيعيّ بلغة القضيّة الشرطيّة، فأصبح ينظر في نورٍ لا في ظلامٍ، ويستطيع في ضوء هذا القانون الطبيعيّ أن يتصرّف.


الشكل الأوّل والسُنن التاريخيّة

نفس الشيء نجده في الشكل الأوّل من السُنن التاريخيّة القرآنيّة، فإنّ عدداً كبيراً من السُنن التاريخيّة في القرآن قد تمّت صياغته على شكل القضيّة الشرطيّة التي تربط ما بين حادثتين اجتماعيّتين، أو تاريخيّتين، فهي لا تتحدّث عن الحادثة الأولى أنّها متى توجد، ومتى لا توجد، لكن تتحدّث عن الحادثة الثانية، بأنّه متى ما وجدت الحادثة الأولى، وجدت الحادثة الثانية.

1 ـ
﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ1.
هذه السنّة التاريخيّة للقرآن ُيّنت بلغة القضيّة الشرطيّة، لأنّ مرجع هذا المفاد القرآنيّ إلى أنّ هناك علاقةً بين تغييرين: بين تغيير المحتوى الداخليّ للإنسان، وتغيير الوضع الظاهريّ للبشريّة والإنسانيّة. مفاد هذه العلاقة قضيّة شرطيةٌ، أنّه متى ما وُجد ذاك التغيير في أنفس القوم، وُجد هذا التغيير في بناء القوم وكيان القوم.

2 ـ ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً2.
إنّ هذه الآية الكريمة تتحدّث عن سُنّةٍ من سُنن التاريخ، عن سُنّةٍ تربط وفرة الإنتاج بعدالة التوزيع، هذه السُنّة أيضاً هي بلغة القضيّة الشرطيّة، كما هو الواضح من صياغتها النحويّة أيضاً.

3 ـ ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرا3.
هذه أيضاً سنّةٌ تاريخيّةٌ بُيّنت بلغة القضيّة الشرطيّة، ربطت بين أمرين، بين تأمير الفسّاق والمترفين في المجتمع، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله. هذا القانون التاريخيّ أيضاً، مُبيّن على نهج القضيّة الشرطيّة، فهو لا يبيّن متى يوجد الشرط، لكن يبيّن أنه متى ما وُجد هذا الشرط وُجد الجزاء.


موقع إرادة الإنسان من السنّة

يظهر دور إرادة الإنسان عن طريق الالتفات إلى الشكل الأوّل من أشكال السُنّة التاريخيّة، الذي تصاغ فيه السُنّة التاريخيّة بوصفها قضيّةً شرطيّةً. وكثيراً ما تكون هذه القضيّة الشرطيّة في شرطها معبّرة عن إرادة الإنسان واختيار الإنسان، يعني أنّ اختيار الإنسان يمثّل محور القضيّة الشرطيّة، وشرط القضيّة الشرطيّة.

إذاً فالقضيّة الشرطيّة كالأمثلة التي ذكرناها من القرآن الكريم، تتحدّث عن علاقةٍ بين الشرط والجزاء، لكن ما هو الشرط؟ الشرط: هو فعل الإنسان، هو إرادة الإنسان، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ4. التغيير هنا أُسند إليهم فهو فعلهم، إبداعهم وإرادتهم.

إذاً السُنّة التاريخيّة حينما تُصاغ بلغة القضيّة الشرطيّة، وحينما يحتلّ إبداع الإنسان واختياره موضوع الشرط في هذه القضيّة الشرطيّة، في مثل هذه الحالة تصبح هذه السُنّة متلائمةً تماماً مع اختيار الإنسان، بل إنّ السُنّة حينئذٍ هي اختيار الإنسان، تزيده اختياراً وقدرةً وتمكناً من التصرّف في موقفه، كما أنّ ذلك القانون الطبيعيّ للغليان كان يزيد من قدرة الإنسان لأنّه يستطيع حينئذٍ أن يتحكّم في الغليان، بعد أن عرف شروطه وظروفه، كذلك السُنن التاريخيّة ذات الصيغ الشرطيّة، هي في الحقيقة ليست على حساب إرادة الإنسان، وليست نقيضاً لاختيار الإنسان، بل هي مؤكّدةٌ لاختيار الإنسان، توضّح للإنسان نتائج الاختيار، لكي يستطيع أن يقتبس ما يريده من هذه النتائج، لكي يستطيع أن يتعرّف إلى الطريق الذي يسلك به إلى هذه النتيجة، أو إلى تلك النتيجة، فيسير على ضوءٍ وكتابٍ منيرٍ.


2 ـ شكل القضيّة الفعليّة المحقّقة

الشكل الثاني الذي تتّخذه السُنن التاريخيّة، شكل القضيّة الفعليّة الناجزة الوجوديّة المحقّقة. وهذا الشكل أيضاً نجد له أمثلةً وشواهد في القوانين الطبيعيّة والكونيّة، مثلاً:

العالِم الفلكيّ حينما يُصدر حكماً علميّاً على ضوء قوانين مسارات الفلك، بأنّ الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلانيّ، أو أنّ القمر سوف ينخسف في اليوم الفلانيّ، هذا قانون علميّ وقضيّة علميّة، إلاّ أنّها قضيّة وجوديّة ناجزةٌ، ليست قضيّةً شرطيّةً، لا يملك الإنسان اتجاه هذه القضيّة، أن يغيّر من ظروفها، وأن يعدّل من شروطها، لأنّها لم تبيّن كلغة قضيّةٍ شرطيّةٍ، وإنّما بُينت على مستوى القضيّة الفعليّة الوجوديّة. الشمس سوف تنكسف، القمر سوف ينخسف، هذه قضيّةٌ فعليّةٌ تنظر إلى الزمان الآتي، وتخبر عن وقوع هذه الحادثة على أيّ حال.

كذلك القرارات العلميّة التي تصدر عن الأنواء الجويّة، المطر ينهمر على المنطقة الفلانيّة، هذا أيضاً يعبر عن قضيّة فعليّة وجوديّة، لم تُصَغ بلغة القضيّة الشرطيّة، وإنّما صيغت بلغة التنجيز والتحقيق، بلحاظ مكانٍ معيّن، وزمانٍ معيّن.


3 ـ شكل الاتجاه الطبيعيّ

الشكل الثالث للسُنّة التاريخيّة: وهو شكل اهتمّ به القرآن الكريم اهتماماً كبيراً، وهو السُنّة التاريخيّة المُصاغة على صورة اتجاهٍ طبيعيٍّ في حركة التاريخ، لا على صورة قانونٍ صارمٍ حديٍّ، وفرقٌ بين الاتجاه والقانون.


v بين الاتجاه والقانون

ولكي تتّضح الفكرة في ذلك، لا بدّ وأن نطرح الفكرة الاعتياديّة التي نعيشها في أذهاننا عن القانون.

القانون العلميّ كما نتصوّره عادةً، عبارةٌ عن تلك السُنّة التي لا تقبل التحدّي من قبل الإنسان، لأنّها قانونٌ من قوانين الكون والطبيعة، فلا يمكن للإنسان أن يتحدّاها، أن ينقضها، أن يخرج عن طاعتها، يمكنه أن لا يصلّي لأنّ وجوب الصلاة حكمٌ تشريعيٌّ وليس قانوناً تكوينيّاً، يمكنه أن يشرب الخمر، لأنّ حرمة شرب الخمر قانونٌ تشريعيٌّ وليس قانوناً تكوينيّاً، لكنّه لا يمكنه أن يتحدّى القوانين الكونيّة والسُنن الموضوعيّة، مثلاً لا يمكنه أن يجعل الماء لا يغلي إذا توفّرت شروط الغليان، لا يمكنه أن يتحدّى الغليان، أن يؤخّر الغليان لحظةً عن موعده المعيّن، لأنّ هذا قانونٌ، والقانون صارمٌ، والصرامة تأبى التحدّي.

هذه هي الفكرة التي نتصوّرها عادةً عن القوانين وهي فكرةٌ صحيحةٌ إلى حدّ ما، لكن ليس من الضروريّ أن تكون كلّ سنّةٍ طبيعيّةٍ موضوعيّةٍ على هذا الشكل، بحيث تأبى التحدّي، ولا يمكن تحدّيها من قبل الإنسان بهذه الطريقة، بل هناك اتجاهاتٌ موضوعيّة في حركة التاريخ، وفي مسار

الإنسان، إلّا أنّ هذه الاتجاهات لها شيءٌ من المرونة، بحيث إنّها وإن لم تقبل التحدّي على شوطٍ طويلٍ، لكن على الشوط القصير تقبل التحدّي. أنت لا تستطيع أن تؤخّر موعد غليان الماء لحظةً، لكن تستطيع أن تجمّد هذه الاتجاهات لحظاتٍ من عمر التاريخ، لكن هذا لا يعني أنّها ليست اتجاهاتٍ تمثّل واقعاً موضوعيّاً في حركة التاريخ، هي اتجاهاتٌ ولكنّها مرنةٌ، تقبل التحدّي لكنّها تحطّم المتحدّي، حينما يتحدّى هذا المتحدّي تحطّمه بسُنن التاريخ نفسها. ومن هنا كانت اتجاهات.

هناك أشياءٌ يمكن تحدّيها دون أن يتحطّم المتحدّي، لكن هناك أشياءٌ يمكن أن تتحدّى على شوطٍ قصيرٍ، ولكن المتحدّي يتحطّم على يد سُنن التاريخ نفسها. هذه هي طبيعة الاتجاهات الموضوعيّة في حركة التاريخ.


اتجاه العلاقة بين الذكر والأنثى

إنّ هناك اتجاهاً في تركيب الإنسان، وفي تكوين الإنسان،

اتجاهاً موضوعيّاً لا تشريعيّاً، إلى إقامة العلاقات المعيّنة بين الذكر والأنثى في مجتمع الإنسان، ضمن إطارٍ من أُطر النكاح والاتصال. هذا الاتجاه ليس تشريعيّاً، ليس تقنيناً اعتباريّاً، وإنّما هو اتجاه موضوعيّ، أعملت العناية في سبيل تكوينه في مسار حركة الإنسان. لا نستطيع أن نقول إنّ هذا مجرّد قانونٍ تشريعيٍّ، مجرّد حكمٍ شرعيٍّ. لا وإنّما هذا اتجاهٌ ركّب في طبيعة الإنسان، وفي تركيب الإنسان، وهو الاتجاه إلى الاتصال بين الذكر والأنثى، وإدامة النوع عن طريق هذا الاتصال، ضمن إطار من أُطر النكاح الاجتماعيّ.

هذه سنّةٌ لكنّها سنّةٌ على مستوى الاتجاه، لا على مستوى القانون. لماذا؟


لأنّ التحدّي لهذه السنّة لحظةً أو لحظات ممكنٌ، أمكن لقوم لوط أن يتحدّوا هذه السنّة فترةً من الزمن، بينما لم يكن بإمكانهم أن يتحدّوا سنّة الغليان بشكلٍ من الأشكال، لكنّهم تحدّوا هذه السنّة، إلاّ أن تحدّي هذه السنّة يؤدّي إلى أن يتحطّم المتحدّي، المجتمع الذي يتحدّى هذه السنّة يكتب بنفسه فناءَ نفسه، لأنّه يتحدّى ذلك عن طريق ألوان أخرى من الشذوذ التي رفضها هذا الاتجاه الموضوعيّ، وتلك الألوان من الشذوذ تؤدّي إلى فناء المجتمع وخرابه.

ومن هنا كان هذا اتجاهاً موضوعيّاً يقبل التحدّي على شوطٍ قصيرٍ، لكن لا يقبل التحدّي على شوطٍ طويلٍ، لأنّه سوف يحطّم المتحدّي نفسه.

الاتجاه إلى توزيع الميادين بين المرأة والرجل، هذا الاتجاه اتجاهٌ موضوعيٌّ وليس اتجاهاً ناشئاً من قرارٍ تشريعيٍّ، اتجاهٌ ركّب في طبيعة الرجل والمرأة، ولكن هذا الاتجاه يمكن أن يتحدّى.


اتجاه الحضانة والتربية

يمكن استصدار تشريعٍ يفرض على الرجل بأن يبقى في البيت ليتولّى دور الحضانة والتربية، وأن تخرج المرأة إلى الخارج لكي تتولّى مشاقّ العمل والجهد. هذا بالإمكان أن يتحقّق عن طريق تشريعٍ معيّن، وبهذا يحصل التحدّي لهذا الاتجاه. لكن هذا التحدّي سوف لن يستمرّ لأنّ سُنن التاريخ سوف تجيب على هذا التحدّي، لأنّنا بهذا سوف نخسر ونجمد كلّ تلك القابليّات التي زوّدت بها المرأة، من قبل هذا الاتجاه، لممارسة دور الحضانة والأمومة، وسوف نخسر كلّ تلك القابليّات التي زوّد بها الرجل، من أجل ممارسة دورٍ يتوقّف على الجلد والصبر والثبات وطول النفس، تماماً، من قبيل أن تسلّم نجاريّات بناية إلى حدّادٍ، وحداديّاتها إلى نجّارٍ، يمكن أن تصنع هكذا، ويمكن أن تنشأ البناية أيضاً، لكن هذه البناية سوف تنهار، سوف لن يستمرّ هذا التحدّي على شوطٍ طويلٍ، سوف ينقطع في شوطٍ قصيرٍ كلّ اتجاهٍ من هذا القبيل، هو في الحقيقة سنّةٌ موضوعيّةٌ من سُنن التاريخ، ومن سُنن حركة الإنسان، ولكنّها سنّةٌ مرنةٌ تقبل التحدّي على الشوط القصير، ولكنّها تجيب على هذا التحدّي.

نوع العقاب على تحدّي السنّة

العقاب هنا ليس بمعنى العقاب الذي ينزل على من يرتكب مخالفةً شرعيّةً، على يد ملائكة العذاب في السماء في يوم القيامة، ليس هو ذاك العقاب الذي ينزل على من يخالف القانون على يد الشرطيّ، يضربه بالعصا على رأسه، وإنّما العقاب هنا ينزل من سُنن التاريخ نفسها، تفرض العقاب على كلّ أمّةٍ تريد أن تبدّل خلق الله سبحانه وتعالى، ولا تبديل لخلق الله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ5.

نحن نقول بأنّ السُنن التاريخيّة من الشكل الثالث، إذا تحدّاها الإنسان فسوف يأخذ العقاب من السُنن التاريخيّة، سرعان ما ينزل عليه العقاب من السُنن التاريخيّة نفسها. كلمة سرعان هنا يجب أن تؤخذ بمعنى السرعة التاريخيّة لا السرعة التي نفهمها في حياتنا الاعتيادية. وهذا ما أرادت أن تقوله هذه الآية الكريمة. هذه الآية الكريمة التي تتحدّث عن العذاب واقعةٌ في سياق العذاب الجماعيّ الذي نزل بالقرى السابقة الظالمة، ثم بعد ذلك يتحدّث عن استعجال الناس في أيّام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الناس يستعجلون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ويقولون له أين هذا العقاب؟ أين هذا العذاب؟ لماذا لا ينزل بنا نحن الآن؟ كفرنا، تحدّيناك، لم نؤمن بك، صممنا آذاننا عن قرآنك، لماذا لا ينزل بنا هذا العذاب؟ هنا القرآن يتحدّث عن السرعة التاريخيّة التي تختلف عن السرعة الاعتياديّة، يقول: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَه، لأنّها سنّةٌ، والسنّة التاريخيّة ثابتةٌ، لكن ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّون6.

اليوم الواحد في سُنن التاريخ عند ربّك باعتبار أن سُنن التاريخ هي كلمات الله كما قرأنا في ما سبق، كلمات الله سُنن التاريخ ـ إذاً في كلمات الله، في سُنن الله اليوم الواحد، المهلة القصيرة، هي ألف سنةٍ. طبعاً في آيةٍ أخرى عبّر بخمسين ألف سنة، لكن أريد بذلك أيّام القيامة لا يوم الدنيا، وهذا هو وجه الجمع بين الآيتين الكريمتين.

في آية أخرى قيل: ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْل7.

هذا ناظرٌ إلى يوم القيامة، إلى يومٍ تكون السماء كالمهل، فيوم القيامة قدّر بخمسين ألف سنة، أمّا هنا فإنه أو فهو يتكلم عن يوم توقيت نزول العذاب الجماعيّ وفقاً لسُنن التاريخ، يقول: ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. إذاً فهذا شكلٌ ثالثٌ من السُنن التاريخيّة، هذا الشكل هو عبارةٌ عن اتجاهاتٍ موضوعيّةٍ في مسار التاريخ، وفي حركة الإنسان، وفي تركيب الإنسان، يمكن أن يتحدّى على الشوط القصير، ولكن سُنن التاريخ لا تقبل التحدّي على الشوط الطويل، إلّا أنّ الشوط القصير والطويل هنا ليس بحسب طموحاتنا، بحسب حياتنا الاعتياديّة، يوماً أو يومين، لأنّ  اليوم الواحد في كلمات الله، وفي سُنن الله كألف سنةٍ ممّا نحسب.

هذا هو الشكل الثالث، الدين هو المثال الرئيسي للشكل الثالث وسيأتي التعرّض له إن شاء الله.

الخلاصة

هناك ثلاثة أشكال تتّخذها السنّة التاريخيّة:

1 ـ شكل القضيّة الشرطيّة
تتمثّل السنّة التاريخيّة في قضيّة شرطيّة، تربط بين حادثتين، تؤكّد العلاقة الموضوعيّة بين الشرط والجزاء، وأنّه متى ما تحقّق الشرط تحقّق الجزاء، والإنسان ضمن تعرّفه إلى هذه القوانين، يستطيع أن يعمل القانون في كلّ حالةٍ يرى أنّه بحاجةٍ إلى الجزاء.


1 ـ ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، فهناك علاقة بين تغيير المحتوى الداخليّ للإنسان، وتغيير الوضع الظاهريّ للبشريّة والإنسانيّة. مفاد هذه العلاقة قضيّة شرطيةٌ، أنّه متى ما وُجد ذاك التغيير في أنفس القوم، وُجد هذا التغيير في بناء القوم.


2 ـ ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً، وهذه سنّة أيضاً بلغة القضيّة الشرطيّة تربط وفرة الإنتاج بعدالة التوزيع.

3 ـ ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً، وهذه أيضاً سنّةٌ تاريخيّةٌ بُيّنت بلغة القضيّة الشرطيّة، ربطت بين أمرين، بين تأمير الفسّاق والمترفين في المجتمع، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله.

إنّ اختيار الإنسان يمثّل محور القضيّة الشرطيّة، والشرط هو فعل الإنسان، هو إرادة الإنسان،

2 ـ شكل القضيّة الفعليّة المحقّقة

لا يملك الإنسان اتجاه هذه القضيّة، ولا يقدر أن يغيّر من ظروفها، أو أن يعدّل من شروطها، فهي قضيّةٌ فعليّةٌ تنظر إلى الزمان الآتي، وتخبر عن وقوع هذه الحادثة على أيّ حال.
 


3 ـ شكل الاتجاه الطبيعيّ
وهو السُنّة التاريخيّة المُصاغة على صورة اتجاهٍ طبيعيٍّ في حركة التاريخ، لا على صورة قانونٍ صارمٍ حديٍّ، وفرقٌ بين الاتجاه والقانون، لأنّ القانون عبارةٌ عن تلك السُنّة التي لا تقبل التحدّي من قبل الإنسان، بينما الاتجاه له شيءٌ من المرونة، بحيث إنّه وإن لم يقبل التحدّي على شوطٍ طويلٍ، لكنّه على الشوط القصير يقبل التحدّي، لكنّه يحطّم المتحدّي، يحطّم بسُنن التاريخ نفسها. ومن هنا كانت اتجاهات.

*صيغ السنن التاريخية، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصد ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- الرعد: من الآية11.
2- الجـنّ:16.
3- الإسراء:16.
4- الرعد/ من الآية11.
5- الحج:47.
 6- الحج/47.
7-  المعارج: من الآية 4 إلى الآية 8.

2015-02-26