يتم التحميل...

الإمامة والخلافة بإختصار

الإمامة والخلافة

لَقَدْ رَحَلَ النبيُّ الاَكرمُ محمّد صلى الله عليه واله وسلم في مطلع العام الحادي عشر الهجري بعد أنْ اجتهد طوال 23 سنة في إبلاغ الشريعة الاِسلامية. ومع رحيل النبيّ الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم انقطعَ الوحيُ، وانتهت النُبوَّةُ، فلم يكن نبيٌّ بعده ولا شريعةٌ بعد شريعته...

عدد الزوار: 19
لَقَدْ رَحَلَ النبيُّ الاَكرمُ محمّد صلى الله عليه واله وسلم في مطلع العام الحادي عشر الهجري بعد أنْ اجتهد طوال 23 سنة في إبلاغ الشريعة الاِسلامية.

ومع رحيل النبيّ الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم انقطعَ الوحيُ، وانتهت النُبوَّةُ، فلم يكن نبيٌّ بعده ولا شريعةٌ بعد شريعته، إلاّ أنّ الوظائف والتكاليف التي كانت على عاتق النبيّ محمد صلى الله عليه واله وسلم (ما عدا مسألة تلقِّي الوحي وإبلاغه) لم تنته حتماً.

ولهذا كان يجب أن يكونَ بعد وفاته شخصيةٌ واعيةٌ وصالحةٌ تواصل القيام بتلك الوظائف والمهام وتقود المسلمين ويكون لهم إمامٌ خلافةً عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

إنّ مسألة ضرورة وجود خليفة للنبي صلى الله عليه واله وسلم موضعُ اتّفاق بين المسلمين، وإنْ اختلف الشيعة والسنة في بعض صفات ذلك الخليفة وطريقة تعيينه.

فلا بدّ في البداية من توضيح معنى "الشيعة" و"التشيع"، وتاريخ نشأته وظهوره، ليتسنّى بعد ذلك البحثُ في المسائل المتعلّقة بالاِمامة والخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

الشيعة لغة واصطلاحاً
"الشِيعَة" في اللغة بمعنى التابِع، وفي الاصطلاح تُطلَقُ هذه اللفظة أو التسمية على فريقٍ من المسلمين يعتقدون بأنّ قيادة الاَُمّة الاِسلاميّةِ بعد وفاةِ رَسُول الله صلى الله عليه واله وسلم هي من حق الاِمام عليّ عليه السلام وأبنائه المعصومين.

وقد تَحَدّثَ النبيُّ الاَكرمُ أيّام حياته عن فضائل الاِمام عليّ عليه السلام ومناقبه، وكذا عن قيادته وزعامته للاَُمّة الاِسلاميّة من بعده، مراراً وفي مناسبات مختلِفة، بشهادة التاريخ المدوَّن.

إنّ هذه التوصيات والتأكيدات تسبَّبت كما تحدِّثُنا الاَحاديثُ الموثّقة في أن يلتَفَّ فريقٌ مِنَ الصحابة حول الاِمام عليّ عليه السلام في حياة النبي الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم وتحبّه قلوبُهم، فتُعْرف بشيعةِ عليّ عليه السلام.

ولقد بقيت هذه الثُلّة من الصحابة على ولائها واعتقادها السابق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم دون أنْ تؤثر المصالحَ الفرديّةَ على تنصيص رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ووصيَّته في مجال الخلافة وقيادة الاَُمّة من بعده.

وهكذا سُمِّيَت جماعةٌ من المسلمين في عصر رسول الله، وبَعد حياته الشريفة صلى الله عليه واله وسلم بالشيعة. وقد صَرحَ بهذا جماعةٌ من المؤلّفين في الملل والنحل.

فالنوبختي (المتوفّى 310 هـ) يكتب قائلاً: الشيعة هُم أتباع علي بنِ أبي طالب عليه السلام المسَمُّون بِشيعةِ علي عليه السلام في زمان النبي صلى الله عليه واله وسلم وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته1.

وقال أبو الحسن الاََشعري: وإنّما قيل لهم (شيعة) لاَنّهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم2
وقال الشهرستاني: الشيعة هم الذين شايَعوا علِيّاً على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافتِهِ نصّاً ووصيّة3.

وعلى هذا الاَساس فليس للشيعة تاريخ غير تاريخ الاِسلام وليس له مبدأُ ظهور غير مبدأ ظهور الاِسلام نفسه، وفي الحقيقة إنّ الاِسلام والتشيّع وَجْهان لعُملةٍ واحدةٍ أو وَجهان لحقيقةٍ واحدةٍ، وتوأمان وُلدا في زَمَنٍ واحدٍ.

وقد ذكر المحدّثون والمؤرّخون أنّ النبيَّ صلى الله عليه واله وسلم دعا في السَنَوات الاَُولى من دعوته بني هاشم، وجمعهم في بيته وأعلن فيهم عن خلافة عليّ ووصايته في ما يسمّى بحديث بَدء الدعوة أو يوم الدار4.وأعلن عن ذلك للناس فيما بعد مكرّراً، وفي مناسبات مختلفة ومواقف متعدّدة، وبخاصة في يوم الغدير، الّذي طرح فيه خلافة عليٍ بصُورةٍ رسميّة، وأخذَ البيعة من النّاس له وسيوافيك تفصيله.

إنّ التشيُّع ليس وليدَ حوادث السقيفة ولا فتنة مصرع عثمان وغيرها من الاَساطير، بل انّ النبي الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم هو الذي بذر بذرة التشيع لاََوّل مرة وغرس غرستها في قلوب الصحابة بتعاليمه السماوية المكرّرة.

ونمت تلك الغرسة فيما بعد شيئاً فشيئاً، وعُرِف صحابةٌ كبارٌ كأبي ذرّ، وسلمان، والمقداد، باسم الشيعة.

وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ آمَنوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُوْلئكَ هُمْ خَيْرُ البَريّةِ)5.

قول النبي صلى الله عليه واله وسلم:"هُمْ عَلِيٌّ وَشِيْعَتُهُ"6.

على أنّه لا يسع هذا البحث المختصر لذكر أسماء الشيعة الاَوائل من الصَّحابة، والتابعين الذين اعتَقَدُوا بخلافَتِهِ للنبِيّ صلى الله عليه واله وسلم بصورةٍ مباشرةٍ وبلا فصل.

إنّ التشيُّعَ بالمفهوم المذكور هو الوجه المشترك بين جميع الشيعة في العالم، والذين يشكّلون قِسماً عظيماً مِن مُسْلِمِي العالم.

ولقد كانَ للِشيعة جنباً إلى جنب مع سائر المذاهب الاِسلامية وعلى مدى التاريخ الاِسلامي إسهامٌ عظيمٌ في نشر الاِسلام، وقَدَّمُوا شخصياتٍ عِلميّة وأَدَبيّة وسياسيّة جدّ عظيمة إلى المجتمع البشري ولهم حضور فاعل في أكثر نقاط العالم الراهِن أيضاً.

الاِمامة مسألة إلهية
إنّ مسألةَ "الاِمامة" كما سنثبِتُ ذلك من خلال الاَُصول القادمة كانت مسألة إلَهيّة، وسماويّة، ولهذا كان من اللازم أن يتم تعيينُ خليفة النبي كذلك عبر الوحي الاِِلَهيّ إلى النبيّ صلى الله عليه واله وسلم، ويقوم النبيُّ بإبلاغه إلى الناس.

وقبل أن نعمدَ إلى استعراض وبيان الاَدلّةِ النقليّة والشرعيّة في هذا المجال، نستعرض حُكم العقلِ في هذه الحالة، آخذين بنظر الاعتبار ظروف تلك الفترة (أي فترة ما قبل وما بعد رحيل النبيّ)، وملابساتها.

إنَّ العقلَ البديهيَّ يحكم بأنّ أي إنسانٍ مصلحٍ إذا استطاع من خلال جهودٍ مُضنيةٍ دامت سَنَواتٍ عديدةً، من تنفيذ أُطروحةٍ اجتماعيّة خاصة له، وابتكر طريقة جديدة للمجتمع البشريّ فإنّه لا بدّ من أن يفكِّر في وسيلةٍ مؤثِّرة للاِبقاء على تلك الاَُطروحة، وضمان استمرارها، بل رُشدها، ونموّها أيضاً، وليس من الحكمة أن يؤسّسَ شخصٌ مّا بناءً عظيماً، متحمّلاً في ذلك السبيل متاعبَ كثيرة، ولكن لا يفكِّر فيما يقيه من الاَخطار، ولا ينصب أحداً لصيانته والعناية به، من بعده.

إنَّ النبيَّ الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم، وهو من أكبر الشخصيّات العالميّة في تاريخ البشريّة، قد أوجَد بما أتى من شريعة أرضيّةً مساعدةً لتحوّلٍ إلهيٍّ عالميٍ كبيرٍ، ومَهَّدَ لقيام حضارةٍ جدُّ حديثةٍ، وفريدةٍ.

إنّ هذه الشخصيّة العظيمة، التي طَرَحَت على البشريّة شريعةً خالدةً، وقادت المجتمعَ البشريّ في عصرِهِ وأيام حياته، من المسلَّم أنّه فَكَّر لحفظ شريعته من الاَخطار والآفات المحتملة التي تهدِّدها في المستقبل، وكذا لهداية أُمّته الخالدة، وإدارتها، وبيّن صيغة القيادة من بعده، وذلك لاَنّه من غير المعقول أن يؤسّس هذا النبيُ الحكيمُ قواعدَ شريعةٍ خالدةٍ أبديّةٍ، دون أنْ يطرح صيغة قويّة لقيادتها من بعده، يضمن بها بقاء تلك الشريعة.

إنَّ النبيَّ الَّذي لم يألُ جُهداً في بيان أَصغر ما تحتاج إليه سعادةُ البشرية، كيفَ يُعقَل أنْ يسكتَ في مجال قيادة المجتمع الاِسلامي وصيغتها، وكيفيتها، والحال أنها من المسائل الجوهريّة، والمصيريّة، في حياة الاَُمّة، بل وفي حياة البشريّة، وفي الحقيقة يترك المجتمعَ الاِسلاميَّ حيارى مهمَلين، لا يَعرِفون واجبهم في هذا الصعيد؟!

وعلى هذا الاَساس لا يمكن مطلقاً القبولُ بالزَّعم القائل بأنَّ النبيّ الاَكرم أغمض عينيه عن الحياة دون ان ينبس ببنت شفة في مجال قيادة الاَُمّة.

الاِمامة والخطر الثلاثي المشؤوم: الروم والفرس والمنافقون

إنّ مراجعةَ التاريخ، وأخذِ الظروف التي كانت تحيط بالمنطقة، وبالعالم في زمان رحيل النبي صلى الله عليه واله وسلم وقُبَيل وفاتهِ بالذات بنظر الاعتبار تثبت بِوُضوح بداهة وضرورةَ "تنْصيصيَّة" منصب الاََمامة وذلك لاَنّ أخطاراً ثلاثة كانت تهدّد الدينَ والكيانَ الاِسلاميَّ، وتحيط به على شكلِ مُثَلّثٍ مَشؤُومٍ:

الضِلعُ الاَوَّل مِن هذا المثلَّث الخَطِر كان يتمثَّل في الاِمبراطورية الروميّة.

والضلع الثانِي كانَ يَتمثّل في الاِمبراطوريّة الفارسيّة.

والضلعُ الثالث كان يَتَمثَّل في فريق المنافقين الداخِلِيّين.

وبالنسبة لخَطَر الضلعِ الاَوّل، وأهميّته القُصْوى يكفي أنَ نعلمَ أنّ النبي صلى الله عليه واله وسلم لم يزل يفكر فيه حتى آخر لحظة من حياته، ولهذا جهّزَ قُبَيل أيّام بل ساعاتٍ من وفاته جيشاً عظيماً بقيادة "أُسامة بن زيد" وبَعَثَه لمواجهة الروم، كما ولَعَنَ مَن تَخلَّفَ عنه أيضاً.

وبالنسبة لخطَر الضِلعِ الثاني يكفي أن نعرفَ أنّه كان عَدُوّاً شرساً أيضاً أقدمَ على تمزيقِ رسالةِ النبيّ صلى الله عليه واله وسلم وكتب إلى حاكم اليمن بأنْ يقبضَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه واله وسلم، ويبعث به إليه، أو يرسلَ إليه برأسه.

وبالتالي بالنسبة إلى الخَطَر الثالث يجب أن نعلمَ أنّ هذا الفريق (أي المنافقين) كان يقوم في المدينة بمزاحمة النبي صلى الله عليه واله وسلم باستمرار وكان المنافقون هؤلاء يؤذونه بالمؤامرات المتنوعة، ويعرقلون حركته، وقد تحدّث القرآنُ الكريمُ عنهم وعن خصالهم، ونفاقهم، وأَذاهم، ومحاولاتهم الخبيثة في سوره المختلفة إلى درجة انّه سمّيت سورة كاملة باسمهم، وهي تتحدّث عنهم وعن نواياهم وأعمالِهم الشرّيرةِ.

والآن نطرحُ هذا السؤالَ وهو: هل مع وجودِ هذا المثلَّث الخَطِر كانَ من الصحيحِ أنْ يترك النبيُ الاَكرمُ صلى الله عليه واله وسلم الاَُمّة الاِسلاميةَ، والدينَ الاِسلاميَ اللّذَين كانا محاطَين بالاَخطار من كلّ جانب، وكان الاَعداءُ لهما بالمرصاد من كلّ ناحية، من دونِ قائدٍ معيّنٍ؟!!

إنّ النبيَّ صلى الله عليه واله وسلم ولاشكَّ كانَ يَعْلَم أن حياةَ العرب حياة قَبَليّة، عشائرية وأنّ أفرادَ هذه القبائِل كانَتْ مُتَعَصِبّة لرؤساء تلك القبائل، فهم كانوا يطيعون الرؤساء بشدّة، ويخضَعُون لهُمْ خضوعاً كبيراً، ولهذا فإنَّ ترك مِثل هذا المجتمع مِن دون نصبِ قائدٍ معيّن سوف يؤدّي إلى التشتت والتنازع بين هذه القبائل، وسيستفيد الاَعداء من هذا التخاصُم والتَنازع، والاِختلاف.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة قال الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا: "الاستخلاف بالنصّ أصوب، فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف"7.

تعيين الاِمام والخليفة في أحاديث الرسول صلى الله عليه واله وسلم.
والآن وَبعدَ أنْ ثَبَتَ أنَّ حِكمةَ النبيّ وعلمهُ كانا يقتَضِيانِ بأن يتخذ موقفاً مناسِباً في مجالِ الِقيادة الاِسلاميّة مِن بَعدِهِ، فَلْنرَى ماذا كانَ الموقف الذي اتخذه صلى الله عليه واله وسلم في هذا الصعيد؟

هُناكَ نظريَّتان في هذا المَجال نُدرِجُهُما هنا، ونعمَدُ إلى مناقشتهما:

النظرية الاَُولى: انّ النبي صلى الله عليه واله وسلم اختار بأمرِ الله تعالى شخصاً مُمتازاً صالِحاً لقيادةِ الاَُمّة الاِسلامِيّة، ونَصَبَهُ لِخلافَتهِ وأخبرَ النّاسَ بذلك.

النظرية الثانية: أنّ النبي صلى الله عليه واله وسلم أوكَلَ اختيار القائد والخليفة من بعده إلى النّاس، انفسِهِم، لينتَخِبوا هم بأنفسِهِم شخصاً لهذا المنصب.

والآن يجب أن نرى أيّة واحدة من النظريتين تُستفاد من الكِتابِ والسُّنة والتاريخِ؟

إنَّ الاِمعانَ في حياة النبيّ صلى الله عليه واله وسلم مُنذ أن كُلّف بتبليغِ شرِيعتهِ إلى أقربائِهِ وعَشيرته، ثم الاِعلان عن دعوتهِ إلى النّاس كافّة، يفيد أن النبيّ صلى الله عليه واله وسلم سلك طريق "التنصيص" في مسألة القيادة، والخلافة، مراراً، دون طريق "الاِنتخاب الشعبيّ" وهذا الموضوع نثبتهُ من خلال الاَُمور التالية:

1- حديث يوم الدار
بعد أن مضت ثلاثُ سَنَوات على اليوم الذي بُعِثَ فيه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، كَلّفهُ اللهُ تعالى بأن يبلّغَ رسالَتَه لاَبناءِ قَبيلتِهِ، وذلك عندما نَزَل قولهُ عز وجلّ: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاََقْرَبِينَ(الشعراء:214).

فَجَمَع النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم رؤوسَ بني هاشم وقال: "يا بني عبد المطّلب إنّي واللهِ ما أعلمُ شابّاً في العَرَبِ جاء قومَه بأفضل ممّا قد جئتكم به إنيّ قد جئتكُم بخَيِر الدُنيا والآخِرة وقد أمَرَنيَ اللهُ تعالى أنْ أدعوكم إليه فأيُّكم يؤازرني على هذا الاَمر يكون أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم".

ولقد كرّر النبي صلى الله عليه واله وسلم العبارة الاَخيرة ثلاثَ مرّات، ولم يقمْ في كلّ تلك المرّات إلاّ الاِمامُ علي عليه السلام، الّذي أعلَنَ عن استعدادِهِ في كلّ مرّة لمؤازرةِ النَبيّ صلى الله عليه واله وسلم ونُصْرته، وفي المرّة الثالِثة قال النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم: "إنَّ هذا أخِي وَوَصيِّي وخَلِيفَتِي فِيكُمْ فَاْسمَعوا لَه وأطيعُوا"8.

2- حَديِثُ المَنْزِلَةِ
لَقد اعتبر النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم منزلةَ "عليّ عليه السلام" منه على غرارِ منزلةِ هارون من موسى، ولم يستثنِ من منازِلِ ومراتبِ هارون من موسى إلاّ النبوّة حيث قال: "يا عليّ أما ترضى أن تكونَ مِنّي بمنزلةِ هارونَ من مُوسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي"9. وهذا النفي والسَلب هو في الحقيقة من بابِ "السالبة بإنتفاءِ الموضوعِ". اذ لم تكن بعد رسولِ الله الخاتم صلى الله عليه واله وسلم نبوّةٌ حتى يكونَ عليٌ نبيّاً من بعده إذ بنُبُوّة رسولِ الاِسلام خُتمت النبوّات، وبِشريعتِهِ خُتِمت الشّرائِع.

ولقد كانَ لِهارون بنَصّ القرآنِ الكريمِ مقامُ "النبوّة": ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمتنَا أخاهُ هارُونَ نَبِيّاً(مريم:53). و"الخلافة": ﴿وَقَالَ مُوسَى لاََخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْني في قَوْمِي(الاَعراف:142). و"الوزارة": ﴿وَاجْعَل لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي(طه:29). في زمانِ مُوسى، وقد أثبتَ حديثُ "المنزلة" جميعَ هذه المناصب الثابتة لهارون للاِمام عليّ عليه السلام ما عدا النُبُوَّة، على أنّه إذا لم يكن المقصودُ مِن هذا الحَديث هو إثباتُ جميعِ المناصبِ والمقاماتِ لعليّ إلاّ النبوَّة، لم يكنْ أيّة حاجة إلى استثناء النُبوّة.

3- حَدِيثُ السَّفِينَةِ
لقد شَبَّه النبيُّ الاَكرمُ صلى الله عليه واله وسلم أهلَ بيته بِسَفينةِ نوح الّتي من رَكبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق في الطوفانِ كما قال: "ألا إنّ مَثَل أهلِ بيتي فِيكم مَثلُ سَفينة نُوح في قومه مَن رَكبها نَجا، ومَن تَخلَّفَ عَنها غرِق"10.

ونحنُ نَعلمُ أنّ سَفينة "نوح" كانت هي الملجأ الوحيد لنجاة الناس من الطوفان في ذلك الوقت.

وعلى هذا الاَساس فإنّ أهلَ البيت النبويّ وفقاً لحديث سفينة نوح يُعتَبرُون الملجأ الوَحيد للاَُمّة للنجاة من الحوادث العصيبة والوقائع الخطيرة التي طالما تُؤدّي إلى انحراف البشرية وضلالها.

4- حديث "أمان الاَُمّة"
لقدَ وَصَفَ النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم أهل بيته بكونهم سَبَباً لوحدة المسلمين، وممّا يوجِبُ ابتعادهم عن الاِختلاف والتَشتّت وأماناً من الغَرق في بحر الفِتنة، إذ قال: "النجومُ أمانٌ لاَهل الاَرض من الغَرَق وأهلُ بَيتي أمانٌ من الاِختلاف، فإذا خالَفتها قبيلةٌ مِنَ العَرَب اختَلَفوا فصارُوا حزب إبليس"11.

وبهذا شبّه النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم أهل بيته الكرام بالنجوم التي يقول عنها اللهُ سبحانه: ﴿وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون(النحل:16).

5- حَديثُ الثَقَلَين
إنّ حديثَ الثَقَلينِ مِنَ الاَحاديث الاِسلاميّة المتواترة، الّتي نَقَلها وَرَواها علماءُ الفريقين في كتبهم الحديثية.

فقد خاطَبَ رسولُ الله صلى الله عليه واله وسلم الاَُمّة الاِسلامية قائلا: "إنّي تاركٌ فيكُم الثَقَلَيْن كتابَ الله وَعِتْرَتي أهلَ بَيْتي ما إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بهما لَنْ تَضلُّوا أبَداً وإنّهما لَنْ يَفْتَرِقا حَتى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ"12.

إنّ هذا الحديثَ، يُثبتُ بوضوح المرجَعيّة العِلميّة لاَهلِ البَيْت النَبَويّ جَنْباً إلى جنب مع القرآن الكريم، وَيُلزِمُ المُسلمين بأن يتمسَّكُوا في الاَُمور الدينيّة بأهل البيت إلى جانب القرآن الكريم، ويلتمسوا رأيهم.

ولكنّ المؤسفَ جدّاً أن يَلتَمس فريقٌ من النّاس رأيَ كلّ أحد إلاّ رأيَ أهلِ البيت، ويطرقوا بابَ بَيْت كلّ أحد إلاّ باب بيتِ أهل البيت عليهم السلام.

إنّ "حديث الثقلين" الذي يتفق على روايته الشيعةُ والسنةُ يمكنهُ أن يجمع جميع مسلمي العالم حول محور واحدٍ، لاَنّه إذا ما اختلفَ الفريقان في مَسألة تعيين الخليفة والقائد، والزعيم السياسي للاَُمّة بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وكان لكلّ فريقٍ نظريّته وآلَ الاستنباطُ التاريخيّ في هذا الصعيد إلى انقسام المسلمين إلى فريقين، فإنّه لا يوجَدُ هناك أيُّ دليلٍ للاِختلاف في مرجَعيّة أهلِ البيت العلِميّة، ويجب أن يكونوا طِبقاً لحديث الثقلين المتَّفَق عليه متفقين على كلمةٍ واحدةٍ.

وأساساً كانت مرجعيَّة أهلِ البَيت العلميّة في عَصر الخُلَفاء لعليّ عليه السلام أيضاً، فقد كانوا يرجعون إليه عند الاِختلاف في المسائل الدينيّة وكانت المشكلة تُحلُّ بواسطته.

وفي الحقيقة منذُ أن عُزل أهلُ بيت النبي صلى الله عليه واله وسلم عن ساحة المرجَعيّة العلميّة ظهرَ التفرُّقُ والتشرذُمُ، وبرزت الفِرَقُ الكلامِيّةُ المتعدّدةُ الواحدةُ تلو الاَُخرى.

6- حديث الغدير
كان رسولُ الله صلى الله عليه واله وسلم كما يبدو في الاَحاديث السالفةُ يعرّف بخليفته ووصيه تارةً بصورةٍ كليّةٍ، وأُخرى بصورةٍمعيّنةٍ، أي بذكر اسم الخليفة والوصيّ بحيث يمثّلُ كلُ واحدٍ من تلك الاَحاديث حجةً كاملةً وتامّةً لمن يطلبُ الحقيقة وهو شهيدٌ واعٍ. ولكن مع ذلك ولكي يُوصِلَ النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم نداءَه إلى كلّ قاصٍ ودانٍ من المسلمين في ذلك اليوم، ويرفعَ كلّ إبهام وغموضٍ، ويدفع كلّ شكٍ أو تشكيكٍ في هذا المجال، توقّفَ عند قُفوله ومراجَعَته من حَجّة الوَداع في أرض تسمى بغدير خم، وأخبر من مَعَه من الحجيج بأنّه كُلِّف مِن جانب الله تعالى بأن يُبلِّغ رسالة إليهم، وهي رسالة تحكي عن القيام بأمرٍ جدّ عظيم، بحيث إذا لم يُبلِّغها يكون كأنّه لم يُبَلّغ شيئاً من رسالته كما قال تعالى:﴿يَا أَيُّها الرَّسُولُ بَلّغْ ما أُنزِلَ إليكَ مِن رَّبِكَ وإن لَمتَفْعَلْ فَماَ بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ(المائدة:67).13

ثم رقى النبيُّ منبراً من أقتاب الاِبل وحُدُوجها، وقال صلى الله عليه واله وسلم مخاطباً الناس: "يوشك أنْ اُدعى فأجيب فماذا أنتم قائلون؟".

قالوا: نَشهدُ أنّك قد بَلّغتَ ونَصحتَ وجَهَدتَ فجزاك اللهُ خيراً.

فقال صلى الله عليه واله وسلم: "ألَسْتم تَشهَدون أن لا إلَه إلاّ الله وأنّ محمّداً عَبدُه ورسولهُ وان الساعة آتيةٌ لا ريبَ فيها؟".

قالوا: بَلى نَشْهدُ بذلك.

قالَ صلى الله عليه واله وسلم: "فإنّي فَرَطٌ (أي أسبقكُم) على الحوض (أي الكوثر)، فَانظُرُوا كيفَ تَخلِفوُني في الثَقَلَين؟".

فنادى مناد: وما الثَقَلان يا رَسولَ الله ؟

قالَ صلى الله عليه واله وسلم: "الثَقَلُ الاَكبر كتابُ الله طَرَفٌ بيدِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وطَرَفٌ بأيدِيكُمْ فتمَسَّكُوا به لا تَضِلُّوا، والآخَرالاَصغَر عترتي، وإنّ اللطيفَ الخبيرَ نبّأني أَنَّهما لنْ يفترقا حتى يَردا عليَّ الحَوضَ، فلا تقدمُوهُما فتَهلكوا، ولا تقصِّروا عنْهما فَتَهْلَكُوا".

ثم أخذ بيد "عليّ" فَرفَعها حتى رؤي بياضُ آباطهما فعرفَه القومُ أجمعون فقال صلى الله عليه واله وسلم: "أيُّها الناسُ من أولى النّاس بالمؤْمِنين من أنفسِهِم؟".

قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلمُ.

قال صلى الله عليه واله وسلم: "إنّ الله مولايَ، وأنا مَولى المؤمِنِين، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنفسهِمْ، فَمَن كنتُ مَولاه فَعَلِيٌ مولاهُ".

ثم قال صلى الله عليه واله وسلم: "اللّهُمَّ والِ مِن والاهُ، وعادِ من عاداهُ، وأحِبَّ من أحَبَّهُ، وابْغَضْ مَن أبْغَضَهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُلْ من خَذَلهَ، وأدِرِ الحقَّ معه حيث دارَ، ألا فَلْيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغائبَ".

حديث الغدير من الاَحاديث المتواترة

إنّ حديثَ الغَدِير منَ الاََحاديثِ المتَواتِرة، وقد رَواهُ من الصَّحابة والتابعين وعُلماءِ الحديث في كلّ قرنٍ بصورَةٍ متواترةٍ.

فقد نقل حديثَ الغدير ورواه (110) من الصحابة، و(89) من التابعين، و(3500) من العلماء والمحدِّثين، وفي ضوء هذا التواتر لا يبقى أيُّ مجالٍ للشَكِ في أصالةِ، وصحّة هذا الحديث.

كما أَنّ فريقاً من العُلَماء ألَّفوا كُتباً مستَقِلّةً حولَ حديث "الغدير" أشْمَلُها وأكثرُها اسْتِيعاباً لِطُرق وأسنادِ هذا الحديث كتابُ "الغدير" للعلاّمة الشيخ عبد الحسين الاَميني (1320 ـ 1390 هـ).

والآن يجب أن نَرى ما هو المقصود من لفظة "الموَلى" وماذا تَعني "مولويّة" عليّ عليه السلام؟

إنّ القرائن والشواهدَ الكثيرةَ والعديدةَ تشهد بأنَّ المقصودَ من هذه اللَفظة، والكلمة هو: الزعامة والقيادة، وها نحن نشيرُ إلى بعض هذه الشَواهدِ والقرائن:

أ- في واقعة الغدير، أمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه واله وسلم بأنْ يحطَّ الحُجّاج الّذين كانوا يرجعون معه من الحج، في أرض قاحِلةٍ لا ماء فيها، ولا كلاَ، وفي وقتِ الزوال، وتحت أشعّة الشَّمس الحارقة.

ولقد كانت حرارةُ الهَجير من الشِدّة في ذلك الوَقت بحيث أنّ الشخص من الحاضرين في ذلك المشهد كان يضع بعض عباءته تحت رجليه وبعضها فوق رأسه تَوقِّياً من شدّة الرَمضاء، وحرارة الشّمس.

من الطبيعي أن النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يريد في هذه الحالة الخاصّة، أن يقول ماله دورٌ مصيريٌّ هامٌ في هداية الاَُمّة.

ترى أي شيء يمكنه أن يكون له دور مصيريٌّ وهامٌّ في حياة المسلمين أكثر من تعيين القيادة التي توجب وحدةَ كَلِمةِ المسلمين، وتكونُ حافظة لدينهم.

ب- لقد تحدّث رسولُ الله صلى الله عليه واله وسلم قبل ذكر مسألة ولاية الاِمام علي عليه السلام عَن أُصول الدين الثلاثة: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، وأخَذَ من الناس الاِقرارَ بها، ثم طرَحَ مسألة ولاية الاِمام علي عليه السلام بعد ذلك.

إنّ التقارن بين إبلاغ هذه الرسالة وأخذ الاعتراف والاِقرار بالاَُصول المذكورة يمكن أن يقودنا إلى معرفة أهميّة الرسالة التي أمَرَ النبيُّ بإبلاغِها إلى النّاس في "غدير خم"، ويمكن معرفة أنّ النبيّ صلى الله عليه واله وسلم ما كانَ يقصُد مِن ذلك الاِجتماع العظيم في تلك الظروفِ الاِستثنائيّةِ والملابَسات الخاصّة التوصية فقط بمحبّة وموادّة شخصٍ معيّنٍ..

ج- قبل إبلاغِ الرِسّالة الاِلَهيّة في شأنِ عليٍّ عليه السلام تحدَّثَ النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم عن ولايَته ومولويَّتهِ وقال: اللهُ مولايَ وأنا مولى المْؤُمِنِين، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنْفسِهِمْ.

إنّ ذكر هذه المطالب دليلٌ على أنّ "مولويّةَ الاِمام علي عليه السلام" كانت من نمط وسنخ مولوية النبيّ صلى الله عليه واله وسلم وأنّ النبي أثبت بأمر الله تعالى مَولويّته وأولويّته بالاَمر لعليّ أيضاً.

د- إنّ النبيّ صلى الله عليه واله وسلم قال بعد إبلاغ هذه الرِسّالة الاِلَهيّة: فَلْيبلّغِ الشاهدُ الغائبَ.

كفاءة الخليفة المنتخب قطعت كيد الاَعداء
إنّ تاريخَ الاِسلام يشهدُ بأنّ أعداء النبي صلى الله عليه واله وسلم استَخْدَموا كلَّ وسيلةٍ مُمكنةٍ لاِطفاءِ نور الرسالةِ المحمديّة، وعَرْقَلَةِ مسير الدَّعوة الاِسلاميّة بدءاً من اتّهام النبيّ الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم بالسِحر والشعوَذة وانتهاءً بمحاولة اغتياله في فراشه، ولكنّهم بفضل العناية الاِلَهيّة، فشِلوا في خُططهم جمعاء، وحفظ اللهُ نبيّه من كيد المشركين والكافرين، فلم يبقَ لهم من أمل إلاّ أن يموتَ رسولُ الله صلى الله عليه واله وسلم فيطفئوا جَذوة دعوته، ويُخمدوا نورَ رسالته (خاصّة أنّه لم يُخَلّف وَلَداً من الذكور).

وقد حكى اللهُ عن أمَلهم الشّرِير هذا بقوله: ﴿أمْ يَقُولُونَ شاعرٌ نَتربَّصُ به رَيبَ المَنُونِ(الطور:30).

ولقد كانت هذه النيّة الخبيثَة، وهذه الفطرةُ الشّريرةُ تراوِدُ ذهنَ الكثيرِ من المشركين والمنافقين، ولم يكن عددُهم بين أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم بِقليلٍ.

ولكنّ النبيَّ صلى الله عليه واله وسلم بِنَصبه خليفةً قوياً وجديراً بالخلافة يقودُ الاَُمّة من بَعده وقد تحلّى بسوابق جهاديّةٍ وإيمانيّةٍ مشرقةٍ، وتمتّع بإيمانٍ، وصدقٍ، وثباتٍ في سبيل الاِسلام، فوّت الفرصة على المعارضين لرسالته وخيَّب آمالهم، وأبدلها باليأس والقنوط، وبهذا ضَمِنَ بقاء الدين، ورسّخ قوائِمهَ وقواعده، وأكملَ اللهُ بتعيين القائدِ والخليفةِ نعمة الاِسلام، ولهذا نزل قول الله تعالى بعد نصبِ عليٍّ عليه السلام لخلافةِ النبيّ صلى الله عليه واله وسلم يومَ "غدير خم": ﴿اليَوْمَ يئسَ الَّذينَ كَفَرُوا مِن دينكُمْ فَلاَ تَخْشَوهُمْ وَاخْشَونِ اليومَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسْلام دِينَاً(المائدة:3)14.

ثم إنّ هناك مضافاً إلى الرّوايات المتواترة المذكورة التي تُثبت أنّ مسألة خلافة النبيّ صلى الله عليه واله وسلم مسألةٌ إلَهيّةٌ، وأنّه ليس للنّاس أيّ خيارٍ فيها رواياتٍ تحكي عن أنّ النبيّ صلى الله عليه واله وسلم كان منذ الاَيام الاَُولى من دعوته في مكّة، يوم لم تُشكَّلْ فيها حكومةٌ في المدينة بعدُ، يرى أنّ مسألة خلافتهِ مسألةٌ إلَهيّةٌ يعود أمر البتّ والتعيين فيها إلى الله وحده دون غيره.

فعندما أتى رئيس قبيلة "بني عامر" إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في موسم الحج مثَلاً، وقال: أرأيتَ إنْ نَحنُ بايعناكَ على أمرِكَ، ثم أظهرَكَ اللهُ على من خالَفَك، أيكونُ لنا الاَمرُ من بَعدك قال صلى الله عليه واله وسلم: الاَمرُ إلى اللهِ يَضَعُهُ حيثُ يَشاء15.

إنّ من البديهيّ أنّ أمرَ مسألة القيادة والخلافَة إذا كانت متروكةً للنّاس، وانتخابهم لكانَ على النبيّ صلى الله عليه واله وسلم أن يقول: "الاَمرُ إلى الاَُمّة" أو "إلى أهلِ الحَلّ والعَقد" ولكن النبيّ صلى الله عليه واله وسلم قالَ غير هذا. وبذلك طابَقَ كلامُالنبي صلى الله عليه واله وسلم في شأنِ الخلافة كلامَ الله تعالى في شأن الرسالةِ إذ قال: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ(الاَنعام:124)

تعيين الخليفة أصل متفق عليه
إنّ مَسألة تَنْصِيصيَّة مقام الخلافة، وأنّه ليس للاَُمّة أيُّ خيار ولا أيّ دورٍ في تعيين خليفةٍ لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان في ذِهن الصَّحابة أيضاً. نعم كان في نظرهم هو أن ينصَّ الخليفةُ السابقُ على الخليفة اللاّحِق بدل نَصّ اللهِ ونبيّه، ولهذا نرى كما هو من مسلّمات التاريخ الاِسلاميّ أنّ الخليفةَ الثاني تمّ تعيينهُ ونصبهُ في منصب الخلافةِ بِنصٍ من الخليفةِ الاَوّل.

إنّ تصوّر أن تعيينَ الخَلِيفَة الثاني بواسطة أبي بكر لم يَكنْ قراراً قطعيّاً، بل كان من بابِ "الاقتراح"، يخالف ما ثبت من التاريخ، فإنّ الخليفة الاَوّل كان لا يزال على قيد الحياة عندما اعترَض جماعةٌ من الصحابة على هذا التعيين والنصب، وكان "الزبير بن العوام" أحد أُولئك المعترضين على أبي بكر في هذا التعيين، والنصب16. وإنّ من البديهيّ أنّه لو كانَ تعيينُ أبي بكر لِعُمر بن الخطاب مِن باب مجردَّ الاقتراح والترشيح حسب، لما كان لاعتراض الصحابة عليه أيّ مجالٍ ولا مبرّر.

هذا مضافاً إلى أنّ الخليفة الثالث هو الآخر تمّ تعيينُهُ عن طريق شورى تألَّفَتْ من (6) أشخاص عيَّنهُمُ الخليفةُ الثاني، وكانَ هذا نوعاً مِن تعيين الخليفة الّذي مَنَع الآخرين من مراجعة الرأي العامّ.

على أنّ فكرةَ مراجَعة الرأي العامّ، واختيار الخليفة بواسطة الناس لم يَدُرْ في خَلَدِ أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم أساساً، وما ذُكِرَ في هذا الصعيد فيما بعد إنّما هو من تبريرات العُلماء والمفكرين، وأمّا من يشار إليهم من الصحابة فقد كانوا يَعتقدون بأنّ الخليفة يجب أن يُعيَّن ويُنصَب من قِبَل الخليفةِ السابق لا غير.

وللمثال عندما جُرح الخليفةُ الثاني، بَعَثَتْ عائشةُ زوجةُ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم رسالةً شفويّة إلى الخليفة الثاني بواسطة ابنه "عبدِ الله" إذ قالت له: يا بُنيّ أبلغ عمرَ سلامي وقل له: لا تَدَعْ أُمّة محمد بلا راعٍ، إستَخْلِفْ عَلَيْهم، ولا تَدَعْهُمْ بَعدَك هَمَلاً، فإنّي أخشى عَلَيْهمُ الِفتْنَةَ17.

فأتى عبد الله أَباه وكان طريحَ الفراش فحثّه على تعيين الخليفة من بَعده قائلاً: إنّي سَمِعْت النّاسَ يقولون مقالةً فآليتُ أن أقولها لك وَزَعَمُوا أنّك غير مُسْتَخْلِفٍ وأنّه لو كان لك راعي إبِل أو راعي غَنَم ثم جاءَك وتَرَكَها لرأيَتَ أن قدْ ضَيَّعَ فَرِعايةُ النّاسِ أشد18.

ما هي وظائف الاِمام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم ؟
أشرنا في مطلعِ بحث الاِمامة إلى أنّ خليفة النبي والاِِمام إنّما هو في نظر المسلمين من يقوم بوظائف رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (ما عدا تلقي الوحي والاِِتيان بالشريعة) ونورد هنا أبرز هذه الوظائف لتتبيّن مكانة الاِِمامة وأَهميتها بصورة أوضح.

أ- تَبيين مفاهيمِ القُرآن الكَريم وحلّ مُعضلاته، وبيان مقاصده، وهذا هو من أبرز وظائف النبي صلى الله عليه واله وسلم ويقول عنها القرآن الكريم: ﴿وَأَنزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم(النحل:44).

ب- بيانُ الاَحكام الشرعية، فقد كانَ هذا العَمَل من وظائفِ النبي صلى الله عليه واله وسلم حيث كان يقوم بذلك عن طريق تلاوة الآيات المتضمنة للاََحكام حيناً وعن طريق السّنة حيناً آخر.

ثمَّ إنّ بَيان الاَحكام من جانب النبيّ تم بصورةٍ تدريجيّة، ومتزامناً مع وقوع حوادثَ جديدةٍ، وظهورِ إحتياجات حديثة في حياة الاَُمّة، ومثل هذا الاَمر يقتضي بطبيعته أن تستمر هذه الوظيفةُ، لعدم انحصار الحاجات بما حدث في عصره صلى الله عليه واله وسلم، هذا من جانب. ومن جانب آخر لا يتجاوز عددُ الاَحاديث الّتي وَصَلت إلينا عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حول الاَحكام (500) حديث19 ولا شك أنّ هذا القدر من الاَحاديث الفقهية لا تسدُّ حاجة الاَُمّة المتنامِية، ولا توصلُها إلى مرحلة (الاِكتفاءِ الذاتيّ) في مجال التقنين.

ج- حيث إنّ النبي صلى الله عليه واله وسلم كان محوراً للحق، وكان بتعليماته، يمنع من تطرّق أيّ انحرافٍ، وتسرّبِ أيّ إعوجاجٍ في عقائد الاَُمّة، لهذا لم يحدث أيُّ تفرّقٍ عقائديّ، وأي تشتُّتٍ مذهبيّ في عَصره أو لم يكن هناك أَرضية لظهور ذلك.

د- الاِجابة على الاََسئلةِ الدينيّة والاِعتقادية، فقد كان هذا العملُ هو الآخر من وظائف النبي صلى الله عليه واله وسلم الهامَّة.

هـ- إقامةُ القِسطِ والعَدل والاَمن العامّ الشامل في المجتمع الاِسلاميِّ، وظيفة أُخرى من وظائف النبي صلى الله عليه واله وسلم.

و- حِفظُ الثغور، والحدُود، والثروة الاِسلاميّة تجاه الاَعداء هو أيضاً من مسؤوليات النبي الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم، ووظائفه.

إنّ الوظيفتين الاَخيرتين وإن أمكن القيام بهما من قِبَل الخليفة الذي تختارهُ الاَُمّة، لكن من المُسَلَّم والقطعيّ أنّ القيامَ بالوظائِفِ السّابقة (وهي بيانُ مَفاهيمِ القرآنِ الكريمِ الخفيّة، الغامِضَةِ، وبيانُ أحكامِ الشَّرع و.. و...) يَحتاج إلى قائد واعٍ خبيرٍ، يكون موضعَ عناية الله الخاصّة، كما يكون في عِلمِهِ صنوَ النبيّ ونظيرهُ، أيْ أن يكون حاملاً للعلومِ النَبَوّية ومَصُوناً من كل خطأ وزلل، ومعصوماً من كلّ ذنبٍ وخطلٍ، ليستطيع القيامَ بالوظائف الجسيمة المذكورة، وليملاََ الفراغ الذي أحدثه غيابُ النبي صلى الله عليه واله وسلم بسبب وفاته، في الظروف الزاخرة بالاَحداث الحُلوة والمرَّة، وبالوقائع الحرجة.

إنّ من البديهيّ أنّ تَشخيصَ مثلِ هذا الشخصِ، والمعرفة به لاِيكال منصب القيادة إليه، خارجٌ عن حدود عِلمِ الاَُمّةِ ونِطاق معرِفتها، ولا يمكن أن يتُمَّ بغير رسول الله صلى الله عليه واله وسلموبالاَمر الاِِلَهيّ وتعيينهما إيّاه.

ومنَ الواضح أيضاً أنّ تَحقُّق الاَهداف المذكورةِ رهنُ حماية النّاس، واستجابتهم وإطاعتهم للقائد المعيَّن، بواسطةِ النبيّ صلى الله عليه واله وسلم ومجرّدُ التعيين الاِلَهيّ والنصّ النبويّ علىالخليفة لا يكفي لِتحقّقِ الاَهداف والوظائف السالِفة. (إذ لا رَأيَ لِمَنْ لا يُطاع).

وهذا جارٍ حتّى في القرآن الكريم والنبيّ الاَكرم صلى الله عليه واله وسلم نفسِه، فإنّهما ما لم يُطاعا لا تتحقّق أهدافهما.

إنّ الحَوادِثَ السَلْبِيَّةَ، وتشتّتَ كلمة المسلمين الذي حَدَثَ بعد وفاة رسولِ الله صلى الله عليه واله وسلم لم يكن بسبب أنّ النبيّ صلى الله عليه واله وسلم لم يقُم بوظيفته الحكيمة والعياذ بالله، ولا لاَجل أنّه لم يُعرِض على المسلمين أُطروحةً موضوعية وحكيمة لاِدارة الاَُمّة من بعده، أو أنّ أُطروحتَه كانت أُطروحةً ناقصة، بل حدث ما حدث مِنَ المشاكل الاَلِيمة بِسبب أنّ بعضَ أفراد الاَُمّة رجَّحُوا نَظَرَهم على نَظَر النبيّ صلى الله عليه واله وسلم، وقدّموا مَصالحهم الشخصية على تنصيص الله ورسولهِ وتعيينِهما.

ولم يكنْ هذا هو المورد الوحيد الذي حدثت فيه مثلُ هذه الواقعة في التاريخ بل لذلك نظائرُ عديدة في تاريخ الاِسلام20.

*العقيدة الاسلامية،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ط1،ص179-203

1- فِرَق الشيعة، ص 17.
2- مقالات الاِسلاميين: 1:65.
3- الملل والنحل: 1:131.
4- راجع تاريخ الطبري: 2:62 ـ 64.
5- البينة:7.
6- الدر المنثور، سورة البيّنة.
7- الشفاء، الاِلَهيات، المقالة العاشرة، الفصل الخامس، 564.
8- مسند أحمد: 1:159؛ تاريخ الطبري: 2:406؛ تفسير الطبري (جامع البيان): 19:74 ـ 75، تفسير الشعراء، الآية 214.
9- صحيح البخاري: 6:3 طبع 1312 هـ، باب غزوة تبوك؛ صحيح مسلم: 7:120، باب فضائل الاِمام علي (عليه السلام)؛ سنن ابن ماجة: 1:55 باب فضائل أصحاب النبي؛ مسند الامام أحمد: 1:173، 175، 177، 179، 182، 185 و 230؛ والسيرة النبوية لابن هشام: 4:163 (غزوة تبوك).
10- مستدرك الحاكم: 3:351؛ الصواعق المحرقة، ص 91؛ ميزان الاعتدال: 1:224؛ تاريخ الخلفاء، ص 573؛ الخصائص الكبرى: 2:266؛ ينابيع المودة، 28؛ فتح القدير، ص 113؛ وكتب أُخرى.
11- مستدرك الحاكم: 3:149.
12- صحيح مسلم: 7:122؛ سنن الترمذي: 2:307؛ سنن الدارمي: 2:432؛ مسند أحمد: 3:14، 17، 26، 59، و ج 4:59، 366 و 371، و ج 5:82 و 189؛ الخصائص العلوية، للنسائي ص 20؛ مستدرك الحاكم: 3:109، 148، و 533، وغيرها.
13- أشار المحدّثون والمفسِّرون المُسلمون إلى نُزُول هذه الآية في حَجّة الوداع، يومَ الغدير، اُنظر: كتابَ "الدرّ المنثور" للسيوطي 2:298، و "فتح القدير" شوكاني 2:57؛ وكشف الغمة للاِربلّيّ، ص 94؛ "ينابيع المودّة" للقندوزي، ص 120؛ المنار: 6:463 وغيرها.
14- ولقد اعتبرَ فريقٌ من الصَحابة والتابعين الآية المذكورة مرتبطةً بواقعة "غدير خم" وذلك مثل: أبي سعيد الخدري، وزيد بن الاَرقم، وجابر بن عبد الله اَنصاري، وأبي هريرة، ومجاهد المكي. وللوقوف على روايات الاَشخاص المذكورين حول الواقعة المذكورة راجع: كتاب "الولاية" لاَبي جعفر الطبري، والحافظ ابن مردويه  الاصفهاني برواية ابن كثير في ج 2، من تفسيره؛ والحافظ أبا نعيم في كتاب "ما نزل من القرآن في عليّ" والخطيب البغدادي في ج 8 من تاريخه، والحافظ أبا سعيد  السجستاني في كتاب "الولاية" والحافظ أبا القاسم الحسكاني في "شواهد التنزيل"، وابن عساكر الشافعي برواية السيوطي في "الدر المنثور" 2:295، والخطيب الخوارزمي في كتاب "المناقب". وعباراتهم موجودة في الغدير 1:23ـ236..
15- سيرة ابن هشام:2/422.
16- الاِمامة والسياسة:1/24-25.
17- الاِمامة والسياسة:1/28.
18- حُلية الاَولياء:1/44.
19- الوحي المحمدي ص 212، الطبعة السادسة.
20- راجع كتاب "النَصّ والاِجتهاد" تأليف العلاّمة السيّد عبد الحسين شرف الدين العاملي.

2009-08-03