يتم التحميل...

سؤال وجواب حول عصمة الامام

بحوث عامة

ما هو مفهوم (المعصوم)؟ هل هو وليد منطقنا نحن الشيعة بحيث صنعناه بأنفسنا، أم أن له مباني قمنا نحن بإنمائها وتهذيبها؟ وهل تطلق كلمة المعصوم على الإنسان الذي لا يذنب، أم عليه مع عدم اشتباهه أيضا ً؟إذا قلنا أن المعصوم هو الإنسان الذي لا يقع في الاشتباه أيضا...

عدد الزوار: 34

سؤال: ما هو مفهوم (المعصوم)؟ هل هو وليد منطقنا نحن الشيعة بحيث صنعناه بأنفسنا، أم أن له مباني قمنا نحن بإنمائها وتهذيبها؟ وهل تطلق كلمة المعصوم على الإنسان الذي لا يذنب، أم عليه مع عدم اشتباهه أيضا ً؟

... إذا قلنا أن المعصوم هو الإنسان الذي لا يقع في الاشتباه أيضا، فإننا نجد حين نعود إلى الأئمة الإثني عشر، أن بينهم اثنين تسنموا الخلافة هما الإمام علي والإمام الحسن الذي لبث فيها مدة قصيرة جدا. والأمر الذي لا يعتوره الشك أن هذين الإمامين وقعا في اشتباهات أثناء تسنمهما أمر الخلافة وممارستهما إدارة البلاد، وليس ثمة ما يبعث على التردّد في - وقوع - هذه الاشتباهات من زاوية المنطق التاريخي. والشيء الطبيعي أن هذه الاشتباهات لا تتسق مع تعريف العصمة.

على سبيل المثال نجد أن الإمام الحسن نصب عبيدالله بن عباس قائدا للجيش الذي يحارب معاوية، بل نجد أن أمير المؤمنين نفسه عين عبدالله بن عباس حاكما على البصرة، ولو كان يعلم أن هذا الشخص يجترح مثل تلك الفضيحة السيئة التي صدرت منه سرقة أموال بيت المال في البصرة لما كان عينه- جزما - في مثل ذاك الموقع. فالشيء المؤكد إذن أنه كان يعتقد حين عيّنه، أنه أفضل شخص للموقع، ولما اختاره صدرت منه ذلك الفعل المشين.

إذا أردنا أن ندرس مرحلة حكم الإمام علي، لوجدنا فيها كثيرا من هذه المسائل التي لا يطالها الشك من الوجهة التاريخية، وما أُريد قوله أن هذه الوقائع لا تتسق مع تعريف العصمة.

أما بشأن ما أشرت أليه من أن هذا الضرب من البحوث تتضاءل فائدته إذا تحرك باتجاه واحد، وبقي محدودا في إطار مجموعة كلهم من المتوافقين الذين يلتقون على قناعة واحدة، فلأن الإنسان- بطبيعته - إذا كانت له عقيدة يؤمن بها ويحبها، لا يميل إلى سماع ما يخالفها. وهذه الحالة تتأكد أكثر بالنسبة لنا نحن الذين درجت أفكارنا منذ الصغر ونمت على حب التشيع وآل علي بحيث لم نسمع أبدا انتقادا يطال هذا المجال.

أكثر من ذلك، ربما سمعنا على نحوٍ أسهل انتقادات تطال الدين نفسه وأصوله حتى التوحيد والعبودية، بيدَ أنا لم نسمع نقدا يطال التشيع والأئمة، فضلا عن أن يبادر إنسان للتساؤل عما وقع للأئمة في حياتهم بحيث يبلغ به المدى أن يقول: لماذا بادروا لهذا الفعل ولم يتخذوا ذاك؟

انطلاقا من هذا الواقع، يبدوا أمرا بالغ العسر بالنسبة لنا، أن يُشْكِل إنسان على الإمام الحسن مثلا، وستكسب الحالة بعدا أعقد إذا رام أحيانا أن يُشكل على الإمام الحسين.

على سبيل المثال: الآية التي تتحدث عن الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، والتي ـ كما يعتقد الشيعة ـ لا تقبل الانطباق إلا على الإمام عليّ وما اتفق له من التصدّق بالخاتم في حالة ركوعه.في حين يبدو لي أن هذا الاستدلال لا يتحلى بالجنبة المنطقية كثيرا ولا يبدوا معقولا لعدة بواعث، منها: ما سمعناه وقرأناه عما يبلغه توجّه الإمام نحو الله حال الصلاة، حتى إنه لا يلتفت إلى أحد ولا يعرفه، بل ذكروا أنه لم يكن يعرف الذي يمر أمامه وهو في حال الوضوء، فكيف بالصلاة؟

والسؤال: أنى يكون لشخصٍ مثل هذا وهو في حال صلاته، أن يلتفت بهذا القدر إلى الآخرين، فينتبه إلى الفقير وهو يدخل الباب، ثم يستعطي ولا يعطيه أحد شيئا فيخرج الإمام خاتمه من إصبعه ويعطيه إياه؟

ثم إن إعطاء الفقير المال لا يُعدّ أمراً حسناً، وهذا الفعل لا ينطوي على تلك الأهمية التي تستحق أن يضرّ الإنسان بصلاته على الأقل من الوجهة النفسية.أي أن يقطع توجهه النفسي وصلته بالله من أجل أن يتصدق.

ومن البواعث التي تقلل قيمة الاستدلال بهذه الآية منطقيا، أن الزكاة لا تتعلق بالخاتم، والخاتم - طبقا لفتاوى فقهاء الشيعة- لا يندرج في عداد الأشياء التي تتعلق بها الزكاة.

علاوة على ذلك، نجد أن بعضهم أبدى تعصبا في هذا المجال كي يضخّم الموضوع ويعطيه مدىً أكبر، حين ذهب للقول إن الخاتم الذي أعطاه الإمام كان خاتما ثمينا، مع أننا نعرف أن الإمام أمير المؤمنين لا يضع بيده خواتم ثمينة.

الجواب: ما أشار إليه السائل من ضرورة أن تكون هناك مجموعة تتحرك من موقع معارض، هو أمر مفيد فيه نفع لجميع الجلسات. ولا ينبغي لي أن أرد على هذه النقطة، إنما يكفي أن أعترف بأن هذا المنحى جيد ومفيد.

أما بشأن العصمة ومعنى العصمة، فقد يفكّر الإنسان للوهلة الأولى أن الله اختص بمراقبة مجموعة معينة من أفراد البشر، بحيث ما إن يهمّ أحدهم باجتراح المعصية، حتى ترى الله يمنعه عن ذلك فورا.

الشيء المؤكد أن العصمة ليست كذلك، وإذا كانت كذلك فهي لا تعد كمالا لأحد. فلو افترضنا أن أحدهم يراقب طفلا معينا ويمنعه باستمرار عما لا ينبغي له فعله، فإن هذه الحالة لا تسجَّل في كمالات ذلك الطفل.

ثمة واقع آخر للعصمة يمكن استنباطه من القرآن، وبالذات مما أشار به إلى قصة يوسف الصدّيق عندما وقع في مأزق تلك المرأة، حيث يشير القرآن إلى أنها قصدته ومالت إليه: ( ولقد همّت به ) ولولا أن يطلع عليه برهان ربه لصبا إليها:﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ1.

والذي تدل عليه هذه الآية أن يوسف هو إنسان كبقية البشر، وشاب يتمتع بالغريزة.فقد مالت المرأة إليه، بيدَ أنه لم يصبُ إليها، وكان يمكن أن يميل إليها أيضا لولا ما لديه من برهان ربه. كان يوسف يحمل إيمانا هو على حد الإيمان الكامل، الإيمان الشهودي الذي يجسد أمامه مساوئ هذا العمل ومضارّه، وهذا الإيمان الذي وهبه الله ليوسف هو الذي منعه وحماه من الانجرار لذاك الفعل.

إن لكل واحدٍ منّا عصمة تمنعه عن بعض المزالق والذنوب، لا تتأتى من قوة خارجية رادعة تأخذنا قسرا، بل تنبع من الإيمان الكامل الذي نتحلى به إزاء أخطار تلك الذنوب والمزالق.

على سبيل المثال: لا تجدني أرمي بنفسي من على سطح بناية من أربع طبقات، كما لا أقذف بها في أتون النار. أن أقذف بنفسي في النار، هذا ذنب، بيدَ

أني لا أرتكبه إطلاقا، لأني متيقن من الأضرار التي تعود عليَّ، وهذه الأضرار مجسَّدة أمامي.

لا يسعنا أن نقترف مثل هذا الذنب (القفز من شاهق، أو إلقاء النفس في النار) إلا إذا أردنا أن نتغاضى عن الخطر المترتب عليه.

إما إذا انتقلنا إلى حالة طفل فإنه يمد يده إلى النار، لماذا؟ لأن، خطر هذا الذنب لا يتجسَّد أمامه بمثل ما يتجسّد أمامنا.

وإذا أردنا أن ننتقل بالمفهوم إلى واقع إنسان عادل، فنجد إن ملكه التقوى التي يتحلّى بها تمنعه من اقتراف كثير من الذنوب، وهذه الملكة تهب هذا الإنسان عصمة على قدرها، أي هو معصوم على قدر ملكته.

نستنتج ممّا مرَّ أن للعصمة من الذنوب ارتباطا بدرجة إيمان الإنسان بحقيقة ذلك الذنب وخطره. بالنسبة إلينا قبلناما حدّدته الشريعة من الذنوب تعبّداً بكونها خطايا وذنوبا، أي نحن لا نشرب الخمر لأن الإسلام نهى عن ذلك، ولا نلعب القمار لأن الشريعة نهت عنه. وامتناعنا عن اقتراف هذه الممارسات يقترن- بدرجة وأخرى _ بوعيٍ لمساوئها، بيدَ أن درجة هذا الوعي بخطر هذه الذنوب لا تتجسّد أمامنا كما يتجسَّد الخطر المترتّب على إلقاء أنفسنا بالنار. وإلا لو آمنّا بخطر هذه الذنوب على قدر إيماننا بالخطر المرتب على إلقاء أنفسنا بالنار، لأصبحنا معصومين عن هذه الذنوب.

العصمة من الذنوب إذن هي منتهى الإيمان وكماله. وذلك الإنسان الذي يقول:"لو كُشِفَ لي الغطاء ما ازددت يقينا"2 والقول للإمام علي عليه السلام هو معصوم من الذنوب جزما. إن المخاطر تتجسد لمثله على حد سواء بين جانبي الغطاء أي بين المشهود والغائب. فهو على سبيل المثال، يحس بأن الإساءة بالبذاءة إلى الآخرين، تساوي في واقعها أن يسلط الإنسان عقربا على نفسه، لذلك يمتنع عن مثل هذه الممارسة.

والذي لا شك فيه أن القرآن أشار أيضا إلى ضروب من الإيمان بهذا المستوى.

بناءً على ما مرَّ، نتبين نسبية العصمة، أي كونها على مراتب ودرجات.

فالمعصومون مبرَّأُون ممّا يعدّ ذنوباً بالنسبة إلينا، حيث نجترحها أحيانا ونجتنبها أحيانا أخرى، وهم معصومون عنها لا يجترحونها إبدا. بيدَ أن للمعصومين أنفسهم مراحل ومراتب، وهم ليسوا سواء يشبه بعضهم بعضا. فالمعصومون يعودون مثلنا في بعض المراحل والمراتب، فكما نفتقد نحن العصمة من الذنوب، هم أيضا لا عصمة لهم في تلك المراحل والمراتب.

ما نعده ذنبا بالنسبة إلينا هم معصومون منه، ولكن ما يُعدُّ ذنوبا بالنسبة إليهم هو حسنة بالنسبة إلينا، لأننا لم نبلغ تلك المرتبة حسنات الأبرار سيئات المقتربين.

على سبيل المثال، لو افترضنا أن طالبا في الصف الخامس انبرى لحل مسألة من المسائل التي تطرح في الصف السادس، فتلك له فضيلة يستحق عليها الجائزة، ولكن لو بادر لحل هذه المسألة طالب في الصف التاسع فلا تُعدّ محمدة له، بل ليس لبادرته هذه أية قيمة.

إن ما يُعدُّ حسنات بالنسبة إلينا، هو ذنب بالنسبة إليهم.

وهذا ما يفسر لنا منطق القرآن في نسبته للأنبياء، في قوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ3 أو في خطابه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ4 أمثال هذه الآيات تدل على أن العصمة أمر نسبي، فهو المعصوم في درجته، ونحن في درجتنا.

نتبين إذن أن ماهية العصمة من الذين ترتدّ إلى درجة الإيمان وكماله، فللإنسان في كل درجة من الإيمان، عصمة بالضرورة، في ذاك الموضوع الذي له فيه غاية الإيمان والكمال، أي تبلغه العصمة بالضرورة في مرحلة ( ولولا أن رأى برهان ربه).

وبه يتضح - خطأ التصور الذي يذهب- إلى أن المعصوم شخص مثلنا، يهم نحو المعصية دائما، ولكن غاية ما هناك، أن ملكا مأمورا من قبل الله يمنعه ويأخذ بيده دونها.

فإذا كان الأمر كذلك، فلا فرق إذن بيني وبين أمير المؤمنين الإمام عليّ لأن كلينا يهم بالمعصية وينحاز إليها، ولكن غاية ما هناك أن له ملكاً وُكّل به يمنعه، في حين لم يوكّل بمنعي أحد !

إذا كان الامتناع عن الذنب يتم برادع خارجي يوكل بالإنسان ويمنعه عنه، فلا فضيلة في ذلك، إذ المسألة تشبه أن يقوم شخص بالسرقة وأنا أمتنع عنها، لأن معي دائما شرطيا يتابعني. ففي هذه الحال أنا سارق مثله ولكن مع فارق، فهو يسرق، لا يحول دونه شرطي، وأنا سارق ولكن الشرطي يحول دون ممارستي السرقة. وليست في ذلك فضيلة.

المسألة الأساسية في العصمة، هي العصمة عن الذنوب. أما العصمة عن الخطأ فهي مسألة أخرى، لها هي الأخرى وجهان:

الأول: منهما هو العصمة عن الخطأ في التبليغ، بالصورة التي نقول فيها أن النبي بين لنا الأحكام، ولكن ربما يكون قد أخطأ، إذ ربما يكون الله قد أوحى له الحكم بصيغة، ثم بينه لنا بصيغة أخرى، وذلك تماما كما يحصل بالنسبة لنا من الخطأ في هذا المجال، إذ يقال لنا بلغوا هذه الرسالة- مثلا - فنأتي ونبلغها بصيغةٍ أُخرى.

وعندئذ لا تكون لنا ثقة بكلام النبي من باب احتمال أن يكون قد أخطأ في التبليغ. وهذا ما لا وجود له قطعا.

أما في المسائل الأخرى- التي ذُكرت في السؤال - فقد استعجل السائل َ، فظلمَ أمير المؤمنين، بل أجحفه بعجلته الفائقة تلك. كيف تأتى لك أن تحكم بهذه العجالة وتقول: لو كنت مكان الإمام أمير المؤمنين لما اخترت عبدالله بن عبّاس؟ ليس ثمة ما يمنع الإنسان من إطلاق الأحكام الظنّية (التخمينية) على أمثال هذه المسائل التاريخية. فيحكم مثلا على ممارسة شخص عاش قبل خمسمائة عام بقوله: أظن أنه لو فعل هذا العمل مكان ذاك، لكان أفضل. أما الذي يقطع بالأمور فتلك مسألة. بل ليس من الصحيح إطلاق الأحكام القطعية حتى على أشخاص آخرين، غير الإمام أمير المؤمنين.

لقد عاش الإمام الوقائع بنفسه، وهو يعرف عبدالله بن عباس افضل منك ومني، وكذلك الحال في معرفته لبقية أصحابه. ومع ذلك نأتي نحن ونقول: لو أن الإمام اختار غير عبدالله بن عباس، لأنجز المهمّة بصيغة أفضل، ولكنه مع ذلك لم ينتخبه!

إن هذا المنحى يعكس عجلة في إصدار الأحكام على أمثال هذه المسائل.

يضاف إلى هذا أنك تذكر في كلامك باستمرار - ونحن نستفيد من كلامك دائما- أن للإمام علي عليه السلام سياسة خاصة لم يرد هو - ولا كان ينبغي - أن يتخلف عنها قيد أنملة، ولم يكن له في هذه السياسة (والنهج) من يرافقه ويسير معه فيها، بل كان وحيدا منفردا، وكان يشير باستمرار - إلى وحدته - وأنه يفتقد العدد الكافي من الأصحاب المؤهلين.

لقد كان عبدالله بن عباس - الذي أشرت إليه - والبقية، يجيئون إلى الإمام عليّ عليه السلام دائما ويوصونه بإبداء المرونة، أو ما يقصد ويراد عند إطلاق كلمة (سياسة) في هذه الأيام.

تعال الآن واثبت لي ان كان للإمام أفراد مؤهلون كافون، ومع ذلك أخطأ فيهم _ والعياذ الله - أنا شخصيا لا أستطيع أن أثبت أن الإمام كان له ما يكفي من الأفراد المؤهلين.

إن القدر الذي نعرفه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عين عليا عليه السلام للخلافة، ثم صاح بأن الخلافة بعد أن نزى عليها آخرون قد نهبت منه ‎. ولكن عندما آبوا إليه بعد عثمان يلتمسون مبايعته، تراجع وقال:"دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان... وإن الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكّرت"5.

يريد أن يقول: إن الأوضاع قد أضحت خرابا، لا يمكن فعل شيء وليس معي أحد. لقد فقدت المؤهلين، ولم يعد لدّي من أستعين به على إصلاح أوضاع المجتمع.

ثم يقول بعد ذلك: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر..." فالحجة تمّت عليّ، ولم يعد لي عذر أمام التاريخ، فالتاريخ لن يقبل ما أعتذر به، بل سيكتب أن عليا أضاع الفرصة من يديه. ومع أني أعرف أن هذه ليست فرصة، فسأقبل حتى لا يقول التاريخ أنها كانت فرصة حسنة وأضاعها.

وهكذا نجد الإمام يذكر بنفسه عدم وجود الأفراد المؤهلين، وأن الوقت لم يكن مناسبا لخلافته.

وإذا جاز للإنسان أن يشك ويتردد إزاء أي إنسان، فلا يسع التاريخ أن يتردد إزاء الإمام عليّ عليه السلام ذاته، الذي اعتبر نفسه أحقّ من الآخرين بالخلافة فأهل السنّة أنفسهم يقبلون أن الإمام عليا عليه السلام كان يعتبر نفسه أحقَّ بالخلافة من أبي بكر وعمر.

إذن كيف صار الإمام علي عليه السلام الذي يعتبر نفسه أحق بالخلافة من أبي بكر ويتراجع بعد أن هرعوا إليه للخلافة إثر مقتل عثمان ويقول لهم: أنا لكم وزير خير مني أمير؟

نتلمّس من هذا السياق أن الإمام لم يكن له أفراد مؤهلون. أما لماذا، وما هي العلل التي صيرت الأمر لذلك، فذاك بحث آخر.

وفيما أثاره السؤال حول قوله تعالى: ( ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) من أن الزكاة لا تتعلق بالخاتم، فأولاً إن عامة الإنفاق في الخير يقال له (زكاة). أما تلك التي تستخدم اليوم في عرف الفقهاء بحيث أضحت علما على الزكاة الواجبة، فهي الزكاة الاصطلاحية. وإلا لا يصح القول في كل مرة يذكر فيها القرآن (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) أن المقصود بها الزكاة الواجبة. الزكاة تعني ما يطهّر المال، بل الروح والنفس أيضا ‎،والقرآن يقول للإنفاق المالي بشكل عام إنه زكاة المال أو زكاة الروح أو زكاة النفس.

الأمر نفسه ينطبق على الصدقة. لقد أضحى الآن للصدقة مفهوم خاص، إذ نقول مثلا صدقة السرّ، في حين أن القرآن يطلق الصدقة على كل عمل خير. فإذا شيدت مستشفى أو ألفت كتابا بلغ خيره المجتمع، فهذه صدقة بنظر القرآن، صدقة جارية.

لذاك تجد أن أهل السنّة ممن أراد أن يُشكل على المفهوم المستفاد من الآية، لم يُشكل على هذه الكلمة ويقول إن الزكاة لا تتعلق بالخاتم، لأنه عارف باللغة العربية، وهو يدري أن الزكاة لا تختص بالزكاة الواجبة وحدها.

أما لماذا حصل ذلك - التصدّق بالخاتم - في حال الركوع؟ لقد أثار ذلك من القدماء أفراد من قبيل الفخر الرازي، حيث ذكر أن الإمام علي عليه السلام كان يستغرق في الصلاة دائما حتى يذهل عن نفسه، فلا يعود ينتبه لما يدور حوله، فكيف تقولون إنه قام بالتصدّق بالخاتم وهو في حال الصلاة؟

في جواب ذلك نقول ، أن خشوع الإمام عليّ عليه السلام وأنه كان يستغرق في الصلاة حتى يذهل عن نفسه، حقيقة لا يعتورها شك. بيدَ أن ذلك لا يعني أن جميع حالات أولياء الله بعضها مثل بعض. فقد نقل عن النبي الأكرم نفسه حالتان، إذ كانت تعتوره الجذبة في الصلاة أحيانا، حتى لا يطيق إتمام الاذان، فيقول: أرِحنا يا بلال.

كما نُقل عنه أن الحسن والحسين يعلوانه وهو في حال السجود، فيركبان على عاتقه، فيصبر عليهما بهدوء ويطيل في السجود حتى ينهض الراكب (الحسن أو الحسين) ولا يسقط.

وفي مرة من المرات وقف النبي الأكرم للصلاة، فبصق أحدهم في مكان الصلاة، فتقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطوة إلى الأمام، وغطى بصقة الرجل بقدمه في التراب، ثم عاد لمكانه.

وقد أفاد الفقهاء من هذه القضية، مسائل استخرجوها في باب الصلاة، حتى قال السيد بحر العلوم:

ومشيُ خير الخلق بابن طاب يفتح منه أكثر الأبواب ومعنى ذلك أن السلوك النبوي هذا حل الكثير من المسائل الفقهية في هذا المجال، لأنه أبان مقدار العمل الجائز من غير الجائز أثناء الصلاة، ومسائل أخرى كثيرة.

وهكذا نجد أن الحالات ( المعنوية ) مختلفة.

ثم فكرة (تعليلية) أخرى لها مرتكز عرفاني. إذ يعتقد من يستند إلى المذاق العرفاني أن الانجذاب إذا صار كاملا جدا، تتم فيه حال العودة. أي أن الشخص يكون في عين انشغاله بالله، مشغولا بما يليه أيضا.

العرفاء يقولون بذلك، وأنا شخصيا أقبله، وإن كان هذا الكلام قد لا يحظى في هذه الجلسة بقبول كثير. والذي أريد قوله - وفق مبنى العرفاء - أن الحالة تشبه مسألة خلع البدن. فمن يصل من الأفراد إلى هذه المرحلة توّا يحصل له خلع البدن لحظة ولحظتين، ثم ساعة. ولكن بعض الأفراد هم دائما وفي جميع الأحوال في حال خلع البدن.

أنا شخصيا أعتقد بذلك وقد رأيته، بحيث يكون - مثلا - هناك من يجلس الآن معنا وبينكم وهو في حال خلع البدن.

بنظر أولئك - العرفاء - إن الحالة التي يبدو فيها مستغرقا في الصلاة حتى يخرج النصل من بدنه من دونه أن ينتبه، اقل من تلك الحالة التي يتوجه فيها إلى الفقير وهو في الصلاة، ليس لأنه غفل عن الله، وتوجه إلى الفقير، بل لأن توجّهه إلى الله بلغ من الكمال درجة أضحى يرى العالم بتمامه. في ضوء هذه القرائن لا يمكن أن نرد ما جاء من تصدق الإمام بخاتمه وهو في الصلاة.

*الامامة،الشيخ مرتضى مطهري، المترجم:جواد علي كسّار، مؤسسة أمُّ القرى،لبنان بيروت،ط2 1422هـ،ص195ـ208.


1- يوسف: 24
2- سفينة البحار،ج2،ص734
3- طه:121
4- الفتح: 2
5- نهج البلاغة، طبعة فيض الإسلام، الخطبة91

2010-03-29