يتم التحميل...

كلمة السيد حسن نصر الله في الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك

2019

كلمة السيد حسن نصر الله في الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك

عدد الزوار: 13

كلمة السيد حسن نصر الله في الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك (1440 هجري/ 7 أيار 2019م)

 


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا خاتم النبيين أبا القاسم محمّد ابن عبد الله وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

السلام عليكم وجميعاً ورحمة الله وبركاته.

كلّ عام وأنتم بخير، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقكم ويوفّقنا ويوفّق الجميع لمعرفة حقّ هذا الشهر العظيم والمبارك والعمل بما ينجّينا وبما يقرّبنا وبما ينفعنا لغير ديننا ودنيانا وآخرتنا. وأودّ أن أبارك لكم جميعاً قدوم شهر رمضان المبارك.

الليلة سنتكلّم في أجواء شهر رمضان، وفي هذا اللقاء الأول، واللقاء التمهيدي لبقيّة اللقاءات المباركة إن شاء الله تعالى.

أجمل ما يمكن أن يستقبل الإنسان به شهر رمضان المبارك هو خطبة رسول الله (ص)، فكلّ ما يمكن أن يقال في هذا الشهر العظيم، وكلّ ما يمكن أن يُدعى إلى العمل فيه نجده في خطبته (ص) كخطبة جامعة لهذه التوجيهات والمعاني والمفاهيم، وإن كان مضمون هذه الخطبة موجود في روايات متفرّقة، سواءً في كتب الشيعة أو كتب السنّة؛ لكنّ ميزة هذه الخطبة أنّها جامعة للمعاني التي يريد أن يحدّثنا عنها رسول الله (ص) وأيضاً للتوجيهات والإرشادات العمليّة التي يدعونا إليها. والتالي هذا الخطاب هو خطاب ممتدّ لكلّ الناس، في زمن رسول الله (ص) وإلى قيام الساعة؛ لأنّه خاتم النبيّين والرسل، ودينه ورسالته هي الرسالة الخالدة والباقية إلى قيام الساعة.

هذه الخطبة موجودة في العديد من الكتب، لكنّ النصّ الذي سأقرأه موجود في كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي، يقول: روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) –وهو من كبار علمائنا وفقهائنا- بسندٍ معتبر عن الإمام الرضا (ع) عن آبائه (عليهم السلام)، عن أمير المؤمنين (ع) قال: إنّ رسول الله (ص) خطبنا ذات يوم، وقال:

- «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ».
المقطع الأول، في الحقيقة، هو مقطع تعريفٍ لشهر رمضان من قِبَل رسول الله (ص)، بمعنى أنّه يرتبط بالجانب المعرفيّ، معرفتنا، وفهمنا، ووعينا. فما هو شهر رمضان؟ ومن هو شهر رمضان؟ ما هي قيمته ومنزلته؟ ما هي ميّزاته وخصائصه؟ قبل أن نذهب إلى الجانب أو الإرشاد العملي على الإنسان الذي يفهم ويعرف بشكل عميق وقويّ قيمة الزمان أو المهلة الزمنيّة التي يعيشها بالتأكيد سوف يتصرّف مع هذه المهلة الزمنيّة بشكل مختلف، وإذا كانت لا تعني له شيئاً فهو سيدير لها ظهره، وإذا كانت ذات قيمة عالية جدّاً فسوف يستفيد منها أقصى الاستفادة، سواء كانت ساعات أو أيّام، أو ليالي، أو شهور أو ما شاكل.

إذاً، في المقطع الأوّل، النبيّ (ص) يُعرفنا بشهر رمضان الذي دخلنا في أيّامه.

«شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ»، بمعنى هذا الشهر، ماذا أحضر معه؟ أحضر البركة في مجالاتها كلّها، والرحمة الإلهيّة، وغفران الذنوب، أيّاً تكن هذه الذنوب، وأيّاً يكن هؤلاء العاصون.

- «شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ».
هذا تقييم شهر، فمنذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الشمس والقمر والأرض والنجوم والكواكب وهذا النظام الشمسي وهذا الكون، نقول أنّه خلق الزمان والمكان. والتقدير الإلهي في خلقه للزمان، جعل الزمان هكذا، ليل ونهار، لذلك الآيات القرآنيّة دائماً ما تتحدّث عن الليل والنهار، والأيام والليالي، والشهور، والله سبحانه وتعالى جعل عدّة الشهور اثنا عشر شهراً. فإذاً، لدينا اثنا عشر شهراً، والشهر ثلاثون يوماً أو تسع وعشرون يوماً –بحسب القمري-، واليوم والليل معلوم على مدار الشمس ودوران الأرض وما شاكل؛ فمن الاثني عشر شهراً، ما هو أفضل شهر عند الله سبحانه وتعالى؟ هو شهر رمضان، بلا نقاش. ما هي أفضل الأيام والليالي والساعات؟ بالتأكيد أيام وليالي وساعات شهر رمضان المبارك. نحن الآن دخلنا في الشهر الذي هو أفضل شهر من الشهور عند الله، في الأيام والليالي والساعات، فهو الذي خلقها وهو الذي يعطيها هذه القيمة الرفيعة والعالية.

- «هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ».
هذا أيضاً جانب في معرفة شهر رمضان عالٍ جدّاً، ورفيع وعظيم جدّاً. الله سبحانه وتعالى دعا عباده في مثل هذه الأيام والليالي ليكونوا ضيوفه، إذاً هم الآن ضيوف الله سبحانه وتعالى. عادةً، الحجّاج إلى بيت الله الحرام، يسمّونهم ضيوف الرحمن، وهم يذهبون إلى مكّة للقيام بالمناسك والشعائر مضافاً إلى التعب والسفر والجهد.. إلى آخره، بينما شهر رمضان هو للناس كلّها، للمستطيع وغير المستطيع، وحيث هم في قراهم، وأحيائهم، وبيوتهم، وبلدانهم، كلّهم مدعوون إلى ضيافة الله سبحانه وتعالى ابتداءً من اللحظة الأولى لهلال شهر رمضان المبارك. إذاً، أنتم ضيوف الله، يعني ضيوف الأعظم، والأغنى، والأكبر، والأقدم، والأقدر، والأجود، والأرحم، والأعلم وكلّ ما يمكن أن يُذكر من صفات عظيمة لله سبحانه وتعالى. هو الله العظيم، الحكيم، العليم، الحكيم، الجواد، الغنيّ، المعطي، والذي نقرأ أسمائه وخصوصاً في دعاء الجوشن الكبير، نحن الآن ضيوفه، ضيوف ملك الملوك، ربّ الأرباب، عظيم العظماء، كلنّا ضيوفه سبحانه وتعالى -صغيرنا وكبيرنا، حرّنا ومملوكنا، رجالنا ونسائنا، ذكرنا وأنثانا- في هذه الأيام المباركة.

- «وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ».
هؤلاء الذين يُقبلون على هذه الضيافة، سيكونون من أهل كرامة الله سبحانه وتعالى، وتصوّروا أن يكرمنا الله بما عنده وما عنده، فهذا شيء عظيم وجليل وكبير.

- «أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ».
من خصوصيّات هذا الشهر –بعد العيد لن تعد موجودة، طبعاً-، ومن عظمة هذا الشهر أنّ الأنفاس التي هي عمل طبيعيّ، ولا إراديّ، إن كان في استيقاظك أو نومك، يعتبر الله سبحانه وتعالى أنّ فيها تسبيحكم، فأنفاسكم على مدار ليالي وأيام وساعات هذا الشهر العظيم، تسبيح ولها أجر التسبيح، فهل يوجد كرم وجود وعطاء من الله سبحانه وتعالى أكثر من هذا؟

- «وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ».
طبعاً، هنا إذا استمرّ في النوم طيلة الوقت، فلن يكون النوم عبادة، بل هو نوع من الكسل والفشل والله سبحانه وتعالى لا يحبّ هؤلاء، بل المقصد من النوم الطبيعي أي النوم الذي يحتاجه بشكل طبيعي، هذا النوم الذي هو في حدود الطبيعة هو عند الله سبحانه وتعالى عبادة، في الوقت الذي يكون بالنسبة إلينا استراحة، دون القيام بأيّ جهد، بل نائمون. وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر.

- «وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ».
يوجد تخفيض في شروط وأسباب قبول الأعمال، هذا العمل نفسه يمكن أن تنجزه خارج شهر رمضان، فلسبب أو لآخر قد لا يُقبل منك، أمّا في شهر رمضان فالأعمال مقبولة.

- «وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ».
شهر رمضان هو شهر الدعاء؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يستجيب أدعيتنا. طبعاً، وبين هلالين، قد يقول بعض الإخوة والأخوات أنّنا طلبنا في شهر رمضان من الله كذا وكذا، فلم يعطنا، الله سبحانه وتعالى يعطينا ما فيه صلاح دنيانا وآخرتنا، والقاعدة هنا كما ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين (ع): «ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خيرٌ لي، لعلمه بعاقبة الأمور».

إذاً، بناءً على هذه المعرفة، أنّ هذا الشهر هو أعظم وأفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، وأنكم ضيوف الله، وأهل كرامة الله، أنفاسكم فيها تسبيح، نومكم فيه عبادة، عملكم فيه مقبول، دعاؤكم فيه مستجاب، فبناءً على هذه المعرفة، وعلى هذا الاعتقاد، وهذا الفهم، النبيّ (ص) يُرتّب لنا توجيهاً عمليّاً.

إلى هنا، نكون قد أخذنا العلم، إذاً يجب علينا أن نذهب ونعمل ونتحرّك ونتصرّف خلال هذه الأيام والليالي والساعات بناءً على هذا الفهم، والتقدير، والمعرفة، وعندما ندرك أنّنا نعيش ساعات وأيّام وليالي عظيمة جدّاً عند الله سبحانه وتعالى، ورسول الله (ص) في بقيّة خطبته يُحدّثنا عن نتائج الأعمال وثوابها وعظمتها وأجرها ودرجاتها عند الله سبحانه وتعالى، فهذا كلّه يجب أن يُشكّل حافزاً لنا.

بعبارة أخرى، معرفتنا بقيمة الشهر، ومعرفتنا بالآثار الدنيويّة والأخرويّة المترتّبة على العمل يجب أن يُشكّل كلاهما حافزين قويين، ودافعين عظيمين للعمل في هذا الشهر المبارك.

وهنا يأتي بالكلام عن التوجيهات العمليّة:

- «فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ».
بدايةً وقبل البدء بأيّ عمل يجب أن نستعين بالله سبحانه وتعالى، على أنفسنا الأمّارة بالسوء، على الشياطين المغلولة، ونطلب منه التوفيق والمساعدة والتأييد والتسديد لنمضي في هذا العمل وتكون نيّاتنا صادقة، وقلوبنا طاهرة.

- «فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ».
أكبر عنوانَين بدأ بهما رسول الله (ص) الصيام وتلاوة القرآن. الصيام الذي هو فريضة، ضمن الشروط الشرعيّة والفقهيّة، وتلاوة الكتاب الذي هو من أعظم الأعمال في شهر رمضان المبارك. وأوّل ما يوجّهنا به رسول الله (ص) هو الدعاء لله أن يعيننا وأن يوفقنا في ما نريد أن نقوم به من عمل.

- «فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ».
في هذا الشهر، شهر البركة والرحمة والمغفرة والضيافة والكرامة الإلهيّتين، والأجر العظيم الذي سيُذكر على بعض الأعمال، إذا أضعنا هذا كلّه، بالتالي نكون قد خرجنا من هذا الشهر ولم يُغفر لنا، ولم نكن ممّن شملته الرحمة الإلهيّة، وهذا معنى الشقيّ.

- «وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ، جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ».
بعد طلب الدعاء، والاستعانة بالله سبحانه وتعالى، يجب أن يكون جوعنا وعطشنا مذكِّراً لنا لما ينتظرنا يوم القيامة؛ لأنّ هذا يساعدنا أيضاً على الإقبال أكثر على الأعمال والجهد والتعب الذي يجب أن نتحمّله في هذا الشهر المبارك. عندما يُحشر الناس يوم القيامة في صحراء المحشر، والله أعلم إلى قيام الساعة أعداد البشرية، لنفترض عشرات أو مئات المليارات من الجنّ والإنس والكلّ يُحشر في صحراء واحدة، وفي يومٍ طويل، ويوم القيامة ليس 24 ساعة، وهو يوم الانتظار الصعب، في ذلك اليوم جوعٌ أين منه الجوع؟ وعطشٌ أين منه العطش؟ إذاً، جوعنا وعطشنا ونحن صائمون يجب أن يُذكّرنا بعطش وجوع يوم القيامة.

- «وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ».
من جملة ميّزات شهر رمضان الأساسيّة، أنّه شهر الفقراء والمساكين. وكما أنّ الرحمة الإلهيّة تشملنا جميعاً، فمن جملة أشكالها دعوة الناس لأن يتصدّقوا ويهتمّوا بالفقراء والمساكين، والثواب العظيم المترتّب على هذا العمل.

- «وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ».
بمعنى الأدب، شهر رمضان شهر التأديب، كلّ ما سبق هو مطلوب أيضاً في غير شهر رمضان، ولكن لهذا الشهر خصوصيّة من حيث أنّه دورة تدريبيّة، تذكيريّة، تعبويّة، تهذيبيّة، تعليميّة، لصياغة الإنسان وروحه وأخلاقه وإرادته وعزمه من أجل خير دنياه وآخرته.

- «وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ ».
التوقير، والاحترام، والتقدير، يجب على الصغار أن يوقّروا الكبار، والكبار يجب أن يرحموا الصغار، خاصةً في فترة صيام الكبار عليهم أن يرحموا الصغار ويصبروا عليهم.

- «وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ».
شهر رمضان هو شهر صلة الرحم، والتواصل بين العائلات.

- «وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ».
احفظوا ألسنتكم عن السبّ والشتم عن اللعن وعن الكلام البذيء، والكذب، والنميمة، وعن كلّ قولٍ حرام، عن شهادة وقول الزور، وعن كلّ ما هو عيبٌ وقذرٌ وحرامٌ عند الله سبحانه وتعالى.

- «وَغُضُّوا عَمَّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ، وَعَمَّا لا يَحِلُّ الاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ أَسْمَاعَكُمْ».
غضّوا أبصاركم عنه عن كلّ ما يحرم أن تنظروا إليه؛ فعلى عينك أن تتجنّب الحرام، وعلى أذنك أن تتجنّب الحرام.

- «وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ».
بعد أن ذكر المساكين والفقراء، خصّص الأيتام، ولذلك أيضاً هذا شهر الأيتام، شهر العناية الخاصّة بالأيتام، وهذا له أجرٌ عظيم عند الله سبحانه وتعالى، وله أثر دنيويّ لمن يموت ويترك في عائلته أولاداً صغاراً، أو لمن يُستشهد ويُقتل ويترك في عائلته أولاداً صغاراً، والأيتام هم الفتيان والفتيات الذين لم يبلغوا سنّ التكليف، أو الحُلُم، فهذا اليتيم الشرعي، هؤلاء الأيتام. إذاً، من يتحنّن على أيتام الناس، يُتحنَّن على أيتامه، وهذه من النتائج أو الآثار الدنيويّة لهذا العمل.

- «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ».
هذا شهر التوبة، وطالما أنّ الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة في هذا الشهر، وهو شهر الرحمة والبركة والمغفرة ونحن في ضيافته، وفي العادة عندما يكون الإنسان ضيفاً عند آخر فمهما طلب منه يقبل منه بطلبه وجُوده، فكيف إذا كنّا ضيوف الله سبحانه وتعالى.

- «وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صَلاتِكُمْ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ، وَيُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ، وَيُعْطِيهِمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ».
في هذا المقطع، إلفات إلى أنّ أفضل الساعات في أفضل الساعات، فكل ساعات اليوم والليلة من أفضل الساعات خلال السنة، ولكن في داخل اليوم والليلة هناك ساعات أفضل من غيرها، وهي ساعات أوقات الصلاة، أي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، من الزوال إلى مغيب الشمس، وقت صلاة الظهرين، ووقت صلاة المغرب والعشاء، والليل كلّه طبعاً من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر هي من أفضل الساعات؛ لأنّه وقت الصلوات الواجبة والصلوات المستحبّة. إذاً، أوقات الصلاة هي أفضل ساعات التوجّه والعبادة والدعاء لله سبحانه وتعالى.

- «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَنْفُسَكُمْ مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ، فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ».
الكثير من الناس قد يقول: أنا ابن فلان، ومن النسب الفلاني، أنا من أتباع المذهب الفلاني، أنا يكفيني الحب في القلب والإيمان في العقل، هذا الكلام كلّه في رسالة الإسلام ونبيّه (ص) غير نافع؛ فالإيمان هو العمل الصالح، وأنفسنا مرهونة بأعمالنا، فإذا كانت أعمالنا صالحة فنتيجتها صلاحٌ وفلاح، وإذا كانت أعمالنا سيّئة فنتيجتنا والعياذ بالله معروفة.

إذا كانت أنفسكم مرهونة بأعمالكم، والذي ينقذكم من هذا الرهن هو الاستغفار، ففكّوها باستغفاركم. شهر رمضان شهر الاستغفار، لذلك يُستحبّ الإكثار من قول: (أستغفر الله ربّي وأتوب إليه) أو (أستغفر الله الذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه)، ويوجد العديد من صيغ الاستغفار.

- «وَظُهُورَكُمْ ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ، فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ».
ما تزرون وتحملون على ظهوركم من خطايا وذنوب وسيّئات خفّفوا عنها في السجود؛ فإطالة السجود في أيام وليالي شهر رمضان، وبالتالي وأنتم في السجود، اذكروا الله وتوبوا إليه واستغفروا له وادعوه ناجوه فأفضل الأعمال، في حال السجود.

- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ الْمُصَلِّينَ وَالسَّاجِدِينَ، وَأَنْ لا يُرَوِّعَهُمْ بِالنَّارِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ».
هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لكنه أكثر من وعد، فالرسول (ص) يقول بأنّ الله أقسم بعزّته أنّ هؤلاء المصلّين والساجدين والذين يذكرون الله في سجودهم، الله سبحانه وتعالى لن يعذّبهم في النار، ولن يخيفهم.

- «أيّها الناس! مَنْ فَطَّرَ مِنْكُمْ صَائِماً مُؤْمِناً فِي هَذَا الشَّهْرِ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ، وَمَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ».
هذا من أجمل العروض السهلة في شهر رمضان المبارك، أن تأتي بمؤمن صائم وتقدّم له طعام الإفطار؛ وبما أنّ في زماننا لا يوجد عبيد لكنّ ثواب هذا العمل كمن عتق رقبة، وهو ثواب عظيم. وأيضاً الأمر الآخر والمهم جدّاً، المغفرة لما مضى من الذنوب، فإن كنا قد طلبنا المغفرة فطريقها -ولو أنّ الاستغفار والدعاء والصلاة والأعمال كلّها طريق للمغفرة-، يُعتبر سهل جدّاً وهو أن يفطّر مؤمناً صائماً.

- «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَلَيْسَ كُلُّنَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ».
في زمن الرسول (ص) كان يوجد فقر شديد ومدقع، بعض الناس كانوا لا يملكون حتى قوت يومهم وليس شهرهم أو سنتهم.

- «فَقَالَ (ص): اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، فإنّ الله تعالى يهب ذلِكَ الأجرَ –أي من أفطر صائماً مؤمناً- لمن عمل هذا اليسير إذا لَمْ يقدر على أكثر مِنهُ».
واقعاً، هذا إنسان فقير لا يستطيع أن يُفطّر مؤمناً صائماً إلّا بشربة ماء أو بشقّ من تمر، وإذا فعل ذلك فالله سبحانه وتعالى يعطيه أجر عتق رقبة ويغفر له ما مضى من ذنوبه.

- «أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ، كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ».
لماذا التأكيد هنا على حُسن الخُلق؟ لأنّه على الجوع، والعطش، والسهر، والتعب، والعمل، والدرس، والاستيقاظ باكراً.. وما شاكل، ففي طبيعة الحال، الإنسان بحاجة إلى جهد إضافي كي يكون طويل البال، وصبور، ومبتسم، وكلامه جميل، ومتحمّل لإزعاج الآخرين، لذلك التوصية آكد وأشدّ على حُسن الخُلق، وحُسن الخُلق وحده في شهر رمضان يعطيك جوازاً للعبور على الصراط يوم تزلّ الأقدام، فكما تعلمون أنّ الصراط يمرّ فوق النار وعلى الجميع عبوره إلى الجنّة، فهناك من تزلّ قدمه فيقع في نار جهنّم.

إذاً، حُسن الخُلق هو الذي يجعل الإنسان يمرّ ويعبر عن هذا الصراط، بل أقول لكم أكثر من ذلك للتأكيد على حُسن الخلق، أنّ أجر الإنسان صاحب الخُلق الحسن كأجر الصائم القائم، ليس الصائم فقط في شهر رمضان، بل أيضاً خلال السنة كلّها، والذي يقوم الليل، فالإنسان الذي يكون خُلقه حسن مع عائلته، وجيرانه، وأولاده، وأرحامه، ومن حوله كلّهم، أجره عند الله أجر الصائم القائم.

- «وَمَنْ خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، خَفَّفَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ».
لا يوجد عبيد في زمننا، لكن يمكن أن نوسّع الفكرة لنقول من لديه خدم، أو موظفين، أو من تحت إمرته فمن الممكن التخفيف عنهم في هذا الشهر.

- «وَمَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ، كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ».
نحن بحاجة إلى جهد نفس أكبر، ضبط نفس أعلى، سيطرة على الغضب أكبر، من أيّ وقت مضى. هذه الخصوصيّة في شهر رمضان تعطي هذه النتيجة يوم القيامة.

- «وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً، أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ».
هنا أكثر من إطعام أو تكفّل يتيم، بل أن تكرمه بأيّ مصاديق وبأيّ عنوان من عناوين الإكرام فالله سبحانه وتعالى يُكرمك يوم يلقاك.

- «وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ».
إحدى الأمور السلبيّة التي تحدث في شهر رمضان المبارك، أنّه في السنوات السابقة، كانت المؤسسات أو الجمعيات في مناسبات الإفطار يدعوننا كي نخطب إن كان أنا أو الإخوان فأصبحنا نلاحظ أنّ المدعوين هم أنفسهم بالأعمّ الأغلب، والسؤال الذي طرح نفسه: أليس لديهم عائلات ليفطروا معهم خاصة في هذا الشهر المبارك؟ وكان اقتراحي أنّه يجب معالجة بالتقليل من هذه الإفطارات، لتأتي بعدها الظروف الأمنية لتلغي نفسها بنفسها. لكن ما يجب أن نستثمره هنا، أنّه اليوم، وفي مناسبات الإفطار، ترى فلان يحمل مفكّرته ليسجل عليها الإفطارات المدعوّ عليها عند فلان وفلان، في الوقت الذي يجب أن يبقى الإنسان عند عائلته، عند أقاربه، عند أرحامه، فهو بالدرجة الأولى شهر صلة الرحم، بمعنى أن تزور العائلات بعضها، وأن تتواصل، وأن تلتقي مع بعضها البعض، وفي الحدّ الأدنى من صلة الرحم، بالاتصال أو الكلام، وسأحاول أنا أيضاً أن أقوم باتصالاتي العائليّة بغضّ النظر عن ظروفي الأمنيّة، كي أقول إنّني أقوم أيضاً بهذا التوجيه.

- «وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ».
الله أكبر، يعني لو صلّى وصام وقام قيام الليل، وتصدّق.. وقطع رحمه، فالله سيقطع عنه رحمته يوم يلقاه. وهذا موضوع حذر جدّاً.

- «وَمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِصَلاةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ».
أي الصلوات المستحبّة وأفضلها النوافل اليوميّة وأفضلها ما بين النوافل الليلة والنهارية، هي النوافل الليلة، وأفضل النوافل الليلة، صلاة الليل، ففي الحدّ الأدنى وفي حال الظروف لم تسمح للبعض أو لم يوفّقوا للقيام بها على مدار السنة، بالإمكان استغلال الفرصة ليربحوا فرصة في هذا الشهر المبارك وعظيم الأجر فيه وليقيموا صلاة الليل. والصلاة هي واجب، في شهر رمضان أو غيره، لكن انظروا إلى الكرم الإلهي، فالنبيّ (ص) يقول: بأنّ هذه الصلاة الفريضة والواجبة التي من واجبكم أن تؤدّوها أيضاً:
«وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ»، أي كلّ فريضة ضرب سبعين، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى.

- «وَمَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ ثَقَّلَ اللَّهُ مِيزَانَهُ يَوْمَ تَخِفُّ الْمَوَازِينُ وَمَنْ تَلا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ».
الصلاة على محمّد وآل محمّد يمكن أن تكون بالسبحة، أو دونها، وليس بالضرورة أن تحصي العدد. وإن شاء الله لا نكون ممّن يهجر القرآن والعياذ بالله؛ لأنّ القرآن حينئذٍ سيشكونا إلى الله يوم القيامة.

من المعروف أن تلاوة القرآن له ثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى وعلى مدار السنة، وكلّ آية ترفع الإنسان درجة، والدرجات إلى ما شاء الله، فكيف الحال في شهر رمضان، حيث لا يرتفع الإنسان فقط درجة وإنّما الفرصة العظيمة والكبيرة المقدَّمة لضيوف الله أنّه إذا تلوت آية لك ثواب وأجر كمن تلا القرآن كلّه خارج شهر رمضان. فكم هذه الفرصة عظيمة؟

إذاً، لتكن الأولويّة لتلاوة القرآن على العديد والكثير من الأعمال المستحبّة؛ فهذه الميزة فقط في شهر رمضان، فمن تلا فيه آية كمن ختم القرآن في غيره من الشهور. وما أريد أن ألفت النظر إليه أيضاً، أن المقصود بالتلاوة ليس القراءة السريعة والشفهية، بل القراءة بتأمّل وبتفكّر وبتدبّر، أن نفهم ماذا نقرأ، وهذا ما دعانا إليه الله، لا أن نتسابق مع الزمن لنختم القرآن. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (محمد: 24). والتلاوة هي القراءة ببطء وبهدوء وبدقّة، أما القراءة السريعة جدّاً فلا تُعتبر تلاوة.

- «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَبْوَابَ الْجِنَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مُفَتَّحَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُغَلِّقَهَا عَنْكُمْ، وَأَبْوَابَ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُفَتِّحَهَا عَلَيْكُمْ، وَالشَّيَاطِينَ مَغْلُولَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُسَلِّطَهَا عَلَيْكُمْ».
في بعض اللقاءات الداخلية كنت أمزح مع بعض الإخوان وأقول لهم: ما نراه من الناس في شهر رمضان من معاصي وذنوب ومجاهرة بالإفطار وتجاوز على كرامة وحرمة هذا الشهر، والإدبار عن الله سبحانه وتعالى والتنكّر لضيافته، أمرٌ عجيب وغريب خاصّة وأنّ الشياطين مغلولة، فكيف لو لم تكن مغلولة؟ لكان حتى هذا المقدار من إقبال المسلمين على الصيام والقيام والصلاة وتلاوة القرآن والمساجد وصلة الرحم والتواصل ورحمة الأيتام، وكلّ ما ذكرناه، لكان شبه معدوماً. لكن هذا الذي نراه من إقبال وحضور واهتمام هذا ببركة أنّ الشياطين مغلولة؛ فلو لم تكن مغلولة لكانت في قمّة الاستنفار، والجهوزية، والحرب على الله ورسوله وأئمّة الله عزّ وجلّ؛ لأنّ رسالة إبليس منذ اليوم الأول ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف: 16).

إذاً، في الشهر الفضيل تكون الشياطين مغلولة، لكن البعض من الناس يتأثّرون والبعض الآخر هم شياطين، وأضف إلى ذلك الأنفس الأمّارة بالسوء ولذلك الجهاد الحقيقي هنا هو جهاد النفس.

أيّها الإخوة والأخوات الكرام، في آخر الخطبة يقول أمير المؤمنين (ع):
- «فَقُمْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ؟».

لم يسأل (ع): ما هو من أفضل الأعمال، بل ما أفضل الأعمال. وعلى كلّ حال الصيام واجب وتركه يتنافى مع أفضل الأعمال التي سيذكرها النبيّ (ص)، ومن أفضل الأعمال الواجبة والمستحبة قطعاً والتي من دونها لا يتحقّق هذا العنوان، وهو:
- «فَقَالَ (ص): يَا أَبَا الْحَسَنِ! أَفْضَلُ الأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ: الْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ».

أي الابتعاد عن المعاصي وعدم ارتكاب الذنوب، تصوّروا مراقبتنا لأنفسنا وأن ننتبه لها يعني نقوم بالاستنفار الخاصّ على المستوى النفسي. أن ننتبه لكلامنا قبل أن نتكلم، ولتصرفاتنا قبل أن نتصرّف، هذه المراقبة هي أهمّ شيء، أن يراقب الإنسان نفسه فيما يقول وفيما يفعل، وفيما يُقدّم وفيما يُؤخّر، فإذا كان فيه معصية لله نجتنبه، وإذا كان فيه طاعة لله نفعله. لذا، أريد التذكير بكلام لأئمّتنا (عليهم السلام): «لا خير بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض»، فالبعض يتّجه إلى الأعمال المستحبّة كأن يصلّي الليل وينام على صلاة الصبح، أو يقوم بذاك المستحبّ وبالمقابل يؤذي زوجته أو العكس أو يؤذي أهله ورحمه ومن حوله. الأصل، أفضل الأعمال على الإطلاق الورع عن محارم الله، اجتناب الآثام والذنوب والمعاصي.

أيّها الإخوة والأخوات، ما أريد قوله في آخر الكلمة أنّ شهر رمضان ليس شهر للترفيه، طبعاً هناك من حوّله إلى شهر ترفيه، وهنا لا أتحدّث عن الحلال والحرم، شهر رمضان ليس شهر استراحة بعد تعب 11 شهراً، بل هو شهر الجهاد، الجهاد الأكبر، جهاد النفس، شهر الجهود والتعب والجوع والعطش والصيام والتلاوة والصلاة والعبادة والعمل الحسن، الشهر الذي يجب أن نستفيد ونستغل كلّ دقائقه وثوانيه فضلاً عن ساعات وأيامه ولياليه، ونحن لا نعلم إذا كانت هذه الفرصة ستعود إلينا أم لا، ويجب أن نشكر الله الليلة أنّه أبقانا على قيد الحياة حتى أعطانا هذه الفرصة الجديدة في شهر رمضان، من عيد الفطر السنة الماضية إلى الليلة الأولى من هذه السنة في شهر رمضان، فكم لنا من إخوة وأعزاء وأهل وأقارب وأباء وأمّهات، منهم من مات، ومنهم من استُشهد، رحلوا عن هذه الدنيا وفاتتهم هذه الفرصة، من نِعَم الله التي يجب أن نذكرها في كلّ ليلة أنّ الله أبقانا لهذه الأيام والليالي والساعات ونحن لا نعلم هل سنكمل شهر رمضان؟ وإذا أتانا هلال عيد الفطر هل سيعود علينا شهر رمضان المقبل؟ هل ستتكرّر هذه الفرص الإلهية العظيمة التي هي غاية الجود والكرم التي حدّثنا عنها رسول الله (ص) أم لا؟

لذلك، ما أوصي به هو حسن الاستفادة، فالمسلسلات لن يفوتك شيء منها؛ لأنّه ستتمّ إعادتها بعد شهر رمضان، لكن ما يفوت من شهر رمضان فقد فات وهو لا يُعوّض إلّا إذا منَّ الله عليك ولكنها فاتت وهي فرصة عظيمة.

إذاً، يجب أن نقارب هذه الساعات والأيام والليالي المقبلة بهذه الروحية وبهذا النفس، والاستفادة القصوى.

هل تعرفون مَن أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة؟ أهل النار من أهل الحسرة، ولكن هناك الكثير من أهل الجنّة هم أيضاً من أهل الحسرة؛ لأنّهم سيكتشفون وهم في الجنّة كم ضيّعوا من فرص كانت متاحة لهم في الدنيا، في المباحات، واللهو، واللعب، والسهرات والأمور التي لا طائل منها، زمنٌ ومضى وليس له أيّ أثر يوم القيامة في جنّات الله سبحانه وتعالى، خصوصاً عندما يرون درجات ومقامات و(عظيم قربي) أولئك الذين استفادوا من هذه الساعات ومن هذه الليالي والأيام.

وأخيراً، ما أوصي به أيضاً في هذا الشهر المبارك، أن يكون شهر المصالحات، إن كان في العائلة، وعند الله سبحانه وتعالى من هو الأفضل والأكرم عند الله هو الذي يبادر، بمعنى يحطّ من نفسه ويتنازل ويبادر باتجاه الشخص الآخر والقريب والأخ أي الأخ الإيماني وليس فقط الأخ الرحمي أو الصلبي.

الإخوة والأخوات هؤلاء الناس الطيّبون في هذا الشهر عليهم أن يتصالحوا، أتعرفون لماذا؟ سأقرأ لكم رواية لتعرفوا لماذا.

عن الإمام الرضا (ع) يقول: في أول ليلة من شهر رمضان يُغلّ المردة من الشياطين، ويُغفر في كلّ ليلة لسبعين ألفاً –سبعين ألف مذنب تُغفر ذنوبهم في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك- فإذا كان في ليلة القدر غفر الله بمثل ما غفر في رجب وشعبان ورمضان إلى ذلك اليوم إلّا رجل بينه وبين أخيه شحناء –نوع من البغضاء والعداوة وما شاكل- فيقول عزّ وجلّ: انظروا هؤلاء حتى يصطلحوا –يعني العطاء أو المغفرة الإلهية في ليلة القدر هي مرهونة، أي مع وقف التنفيذ، حتى يصطلحوا-.

إذاً أتمنى على الإخوة والأخوات، أن يعتبروا حقيقة هذه الليالي هي ليالي الإحياء، خصوصاً ليالي القدر. وليكن الحضور في المساجد والصلاة فيها، والمشي إليها، وتلاوة القرآن فيها، الدعاء فيها، والمكوث فيها، هذا الاهتمام بالمساجد والحضور والإحياء يجب أن يكون نصب أعيننا، يجب أن نتصرّف بحقّ وبكرامة ولياقة أننا ضيوف الله عزّ وجلّ ويجب أن نغتنم هذه الفرصة الإلهيّة؛ لأن يوم القيامة وعند وقوفنا يوم الحساب أو ونحن نحتضر قد نقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا﴾ (المؤمنون: 99-100)، كلّا انتهى. إذاً، هذه فرصتنا.

ادعوا لأنفسكم وادعوا لإخوانكم ولأخواتكم ولكلّ الأحبّة، والدعاء للأحبّة وللآخرين تحصلون منه على ما تنتظرونه وتأملونه أنتم.

2019-05-13