يتم التحميل...

عبوديّة النَّفْس

التربية الإيمانية

في مقابل نقطة الارتقاء التي يرى فيها الإنسان أنّ كلّ شيء من الله، وتصير روحه معلَّقة بعزّ قدسه سبحانه وتعالى، هنالك نقطة انحدار

عدد الزوار: 36

سقوط الإنسان
في مقابل نقطة الارتقاء التي يرى فيها الإنسان أنّ كلّ شيء من الله، وتصير روحه معلَّقة بعزّ قدسه سبحانه وتعالى، هنالك نقطة انحدار، وإنّ غاية السقوط هي أن يحاول الإنسان أن يُخْضِعَ كلَّ شيء وكلَّ إنسان لإرادته، وأن لا يَتبع هو لأيّ شيء وأيّ أحد. فإنسان كهذا يسعى لأن يتسلّط على كلّ شيء وأن يصبح الجميع تابعين لإرادته ويتصرّفون وفقًا لرغبته، وأنّه يتصوّر بأنّ عليه أنْ لا يَخضع لأحد، وأن لا ينصت لكلام أحد، وأن لا يستسلم لأحد، وأن لا تتحكّم إرادتُه على مصيره بل على العالم والبشر. وقد يصل الإنسان بالرغم من علمه وإدراكه بأنّه "عبد" و"مملوك" إلى حالة ينكر معها هذه الحقيقة عمدًا وعن علم، فهو لا يرى سوى نفسه، وليس على استعداد لأن يرى غيره، وتلك هي "عبادة الذات"، فعبوديّة الذات تعني حبّ الذات والأنا، فلا يرى الإنسان في هذه الحالة غير نفسه، ولا يَتّبع إلّا الأوامرَ الصادرة عنها.

وبطبيعة الحال، فإنّ لعبادة الذات مراتب، أعلاها أن يضع الإنسان نفسه بديلًا عن الله بشكل كامل، وفي الأمور كافّة، وبإطلاقه لنداء ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى1. ومن النماذج البارزة على التمادي حتّى أقصى درجات السقوط، فرعونُ الذي اعتبر نفسه حائزًا على شؤون الربوبيّة كافّة، وبقوله ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ادّعى الألوهيّة. وقد جاء موسى عليه السلام إلى فرعون ودعاه إلى الله وإلى الإيمان، فقال فرعون: مَن هذا الإله الذي تتحدّث عنه؟ وأين هو؟ فقال موسى عليه السلام: إنّه خالق السماوات والأرض، وله كلّ شيء. قال فرعون: ما هو دليلك على وجود مِثل هذا الإله، وعلى أنّك رسول منه؟ قال موسى عليه السلام: لقد وهبني اللهُ المعجزات، فأظهر موسى عليه السلام معجزة العصا واليد البيضاء أمام فرعون، وفي ذلك المحفل، حيث ألقى موسى عليه السلام عصاه على الأرض فتحوّلت إلى أفعى تتحرّك بهذا الاتّجاه وذاك، فلمّا رأى فرعون هذا المشهد استحوذت عليه الرهبة، وبما أنّه لم يجرؤ على إنكار كلام موسى عليه السلام ودعواه خلال ذلك المجلس، فقد طلب إمهاله للتفكير، ثم إنّه، ولغرض الإيحاء للناس على أنّه يزمع الكشف عن الحقيقة، أمر وزيره هامان بأن يبني له صرحًا كي يتحرّى الله في السماوات، ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبً2.

ثمّ إنّه - كما يدّعي - قد تحرّى عن الله في السماوات، فلم يجد هنالك خبرًا عنه! من هنا قال للناس: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي3. وقد شهد موسى عليه السلام كلام فرعون هذا، فخاطبه: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ4، فهو عليه السلام يؤكّد لفرعون، وبتأكيدَين، قائلًا له: ? لَقَد? عَلِم?تَ ?، فكلٌّ مِن حرف "اللام" وحرف "قد" تُستخدمان في اللغة العربية للتأكيد. وفي هذه الآية يقول عليه السلام: حقًّا حقًّا تعلم أنّ هذه المعجزات التي أَريتُكها ليست سوى من ربّ السماوات والأرض.

إنّ قصة فرعون وما شابهها تدلّ على مدى إمكانيّة سقوط الإنسان، ومدى إمكانيّة أن يكون عبدًا لذاته ومخادعًا، فرغم انكشاف الحقيقة أمامه ناصعة، يُصِرُّ منكِرًا بدافع حبّ الذّات، وطمعًا بالمنصب والثروة وما شابه ذلك.

وبالطبع، إنّ عدد أمثال هؤلاء الذين يُبدُون مقاومة إلى هذا المستوى بوجه نداء ضمائرهم وإشراقة الحقيقة التي تسطع على وجودهم، ليس بالكثير، لكنّ القرآن يشهد على وجود هؤلاء الناس الذين انحدروا إلى أسفل السافلين بكلّ ما في الكلمة من معنى، وهذه الطريق لم تُغلق بعدُ، وربّما هنالك مِن الناس حاليًّا - أو أنّهم سيأتون فيما بعد - ممّن يتفوّهون بما هو أكثر صلافة من فرعون!

مراتب رقيّ الإنسان وسقوطه
هناك قطبان متعاكسان في مسارهما يقفان أمام الإنسان: أحدهما قطب لا يَرى فيه الإنسان شأنًا له، ﴿عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ5.

وعلى الطرف الآخر، وفي أقصى القطب المعاكس، نقطة لا يرى الإنسان فيها شيئًا سوى نفسه، نقطة يضع فيها نفسه بديلًا عن الله، وبندائه ﴿رَبُّكُمُ الْأَعْلَى6 أَنَا يدّعي الألوهيّة! ويريد كلّ شيء وكلّ إنسان له ولخدمته، خاضعًا خاشعًا له، ولا يرتضي إرادةً أو رغبة سوى إرادته ورغبته.

وبين هذين القطبين مراتب لا حصر لها تشير إلى نقطة اللانهاية. فلو لم يكن الإنسان موحِّدًا في مقام "العبد الخالص"، وهو مقام التوحيد الخالص، فمن الطبيعي أنّه سيكون مزيجًا من التوحيد والشرك في أيّ مرتبة أخرى، وهكذا هو حال الكثير من الموحّدين المؤمنين بالله والأنبياء والكتب، أي تشاهَد في إيمانهم شوائب من الشرك.

وهذه المراتب من الشرك ليست بتلك المراتب التي تمسُّ أصل إيمان الإنسان وسعادته، لكنّها تؤثّر حتمًا في تدنّي درجات كماله. وعادةً ما يجهل البسطاء من الناس هذا الشرك، فيمضون حياتهم مشركين دون علمٍ منهم، يُغادرون الدنيا في خاتمة المطاف تلفُّهم حالة الغفلة والجهل بهذا الشرك الخفيّ، لكنّ العظماء والكُمَّل في إيمانهم ومعرفتهم يعرفون هذه القضيّة.

"عبادة الذّات" مصدر سقوط الإنسان
إنّ منبع ضروب السقوط كافّة هي "عبادة الذّات"، فلو تفحّصنا الإنسان في أيّ مرتبة من مراتب الشرك والكفر، سواء أكان خفيًّا أم جليًّا، سنجده مبتليًا بعبادة الذّات بالدرجة نفسها ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلً7. وإذا ما أردنا أن نتّخذ ملاكًا يميّز لنا ما إذا كان أيٌّ من أفعالنا يسير على منحنى خطّ الرقيّ والتكامل أو على منحنى خطّ الانحدار والهبوط، فيجب أن نرى هل أنّنا نقوم بهذا الفعل لأنّ الله هو الذي أراده حقًّا، أم أنّنا نريده لأجلنا؟ ففي بعض مراتب الشرك الخفيّ ربّما تكون عبادة الذّات من الخفاء بحيث تنطلي علينا أيضًا.

على أيّ حال، لا ينبغي الغفلة عن تسويلات النفس، ومن تسويلات النفس أنّها ربّما تلج المنطق والاستدلال دفاعًا عن عبوديّة الذّات، وتحاول إقناع الإنسان بأنّ العمل الذي يقوم به هو عين العقل والمنطق، على غرار ما قام به إبليس لتبرير عبوديّته لذاته، فلغرض أن يتمرّد على خطّ العبوديّة ويسلك طريق الأنانية، انبرى مجادلًا اللهَ علميًّا - حسب زعمه - وجاء بدليل منطقيّ يُخطّئ سجوده لآدم! فقال مدّعيًا الأفضليّةَ بكلّ جرأة وصلافة، ونزعةُ الأنا والاستعلاء تفوح منه بشكل بغيض، ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ8، فكان عاقبته أنْ طُرد وأُبلِس من رحمة الله، وأصبح من الملعونين، ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ9.

الأثر السلبيّ لعبوديّة الذات
إذا ما وضع امرؤ نفسه موضع الله، واستبدل إرادته بإرادة الله، وأصبح تابعًا لهواه، فإنّ الله يضلّه على علم.

وبطبيعة الحال، إنّ الله لا يناصب أحدًا العداء، والمراد أنّ الله جعل الضلالة نتيجة طبيعيّة لاتّباع الهوى كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ10، فلقد أنذر اللهُ والأنبياءُ الإنسانَ بما فيه الكفاية، وحذّروه من الطغيان والعصيان، ونبّهوه إلى أنّه إن لم يلتزم الحيطة في خضمّ هذه التقلّبات، وسار عجولًا، فسيفلت زمام نفسه من يديه، ويلقي به حصان النفس الجموح على الأرض فيحطّم رأسه، فمن لم يكترث لهذه التحذيرات، وأسرع مبادرًا دون مواربة في خِضمّ معاندة الله والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، والعصيان ضدّ الله سبحانه وتعالى، فستحيق به العواقب الطبيعيّة لذلك، ويصل إلى مرحلة يسلك معها طريق الإنكار بالرغم من العلم، ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ11.

إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، نبيّ رأفة ورحمة، وهو حريص على هدايتنا، ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ12.

ولكن لا جدوى من النبيّ ما لم يشأ الإنسان نفسُه، لأنّ هداية الإنسان اختياريّة. وإنّ الله يخاطب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بأن يدع أمثال هؤلاء وشأنهم، ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَ13. فهؤلاء، ونتيجة لاتّباعهم أهواءهم وعبوديّتهم لذواتهم، قد أوصدوا أمامهم جميع السبل، وجعلوا على أبصارهم وأسماعهم غشاوة لئلّا يَروا الحقيقة أو يسمعوها، وسواء بالنسبة إليهم أحذّرهم الله ورسوله أم لم يحذّرهم: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ14.

ما الذي يُمكن توقُّعه ممّن وصل به الأمر أن يقول بكلّ صراحة: إنّني أتقبّل وأرتضي كلام "الزعيم السياسي الفلاني" أكثر من كلام الإمام السجّاد عليه السلام! وكيف يهدي الله مثل هذا الإنسان؟ وأيّ أثر لإنذار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه؟ فإنذار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إنّما يؤثّر في من يضمر في قلبه الخشية من الله سبحانه وتعالى، وليس مَنْ لا يأبى التمرّد على الله، ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ15.

وخلاصة القول: إنّ ذروة رقيّ الإنسان وتكامله هو القرب من الله، وليس لذلك سوى طريق واحد لا أكثر، هو عبوديّة الله، والنقطة المعاكسة له هي السقوطُ، حيث ينحدر إلى أسفل السافلين، وله طريق واحدة أيضًا هي عبوديّة الذّات.

* التربية الإيمانية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة النازعات، الآية 24.
2- سورة غافر، الآيتان 36 – 37.
3- سورة القصص، الآية 38.
4- سورة الإسراء، الآية 102.
5- سورة النحل، الآية 75.
6- سورة النازعات، الآية 24.
7- سورة الفرقان، الآية 43.
8- سورة ص، الآية 76.
9- سورة الحجر، الآية 34.
10- سورة يونس، الآية 44.
11- سورة الجاثية، الآية 23.
12- سورة التوبة، الآية 128.
13- سورة النجم، الآية 29.
14- سورة يس، الآيتان 9 – 10.
15- سورة فاطر، الآية 18.

2017-04-04