يتم التحميل...

مفاسد حبّ الدنيا-4- ضعف العزيمة والإرادة

فكر الإمام الخميني

ومن المفاسد الكبيرة لحبّ الدنيا أنّه يمنع الإنسان من الرياضات الشرعية والعبادات والمناسك، ويقوّي جانب الطبيعة في الإنسان، بحيث يجعلها تعصي وتتمرّد،

عدد الزوار: 15

ضعف العزيمة والإرادة:
ومن المفاسد الكبيرة لحبّ الدنيا أنّه يمنع الإنسان من الرياضات الشرعية والعبادات والمناسك، ويقوّي جانب الطبيعة في الإنسان، بحيث يجعلها تعصي وتتمرّد، ويوهن عزم الإنسان وإرادته، مع أنّ الأسرار العظمى للعبادات والرياضات الشرعية، هي صيرورة البدن وقواه الطبيعية والبعد الملكي فيه، تابعاً ومنقاداً للروح، وتُصبح إرادة النفس سارية فيه (البدن)، ويغلب ملكوت النفس على الملك ويكون للروح سلطنة وقدرة ونفوذ بحيث تجبر البدن على أيّ عمل تُريده. ويُصبح ملك الجسم وقواه الظاهرة مقهوراً ومسخّراً للملكوت، بحيث إنّه يقوم بما يُريد من دون مشقّة ولا عناء.

إنّ من الفضائل والأسرار الشاقّة والصعبة للعبادات تحقّق هذا الهدف - أي تسخير ملك الجسم للملكوت - أكثر، حيث يصير بذلك الإنسان ذا عزم، ويتغلّب على الطبيعة والملك. فإذا اكتملت الإرادة وقوي العزم واشتدّ، أصبح حال الجسم وقواه الظاهرة والباطنة مثل ملائكة الله الذين لا يعصون الله وإنّما يُطيعونه في كلّ ما يأمرهم به وينهاهم عنه، من دون أن يُعانوا في ذلك عنتاً ولا مشقّة.

كذلك إذا أصبحت قوى الإنسان مسخّرة للروح، زال كلّ تكلّف وتعب، وتحوّل إلى الراحة واليسر، واستسلمت أقاليم الملك السبعة1 للملكوت وأصبحت جميع القوى عمّالاً له.

فاعلم يا عزيزي أنّ العزم والإرادة القوية لذلك العالم ضروريان ولهما فعالية. إنّ ميزان أحد مراتب الجنّة والتي هي أفضل الجنّات هو الإرادة والعزم. فما لم يحصل الإنسان على مثل هذه الإرادة النافذة والعزم القوي، لن ينال تلك الجنّة والمقام العالي.

جاء في الحديث، أنّ أهل الجنّة عندما يستقرّون فيها، تنزل عليهم رسالة من ساحة القدس الإلهي جلّـت عظمته بهذا المضمون: "هذه رسالة من الحيّ الثابت الخالد إلى الحيّ الثابت الخالد. أنا أقول للشيء: كن، فيكون. وقد جعلتك اليوم أيضاًفي مستوىً إذا أمرت الشيء وقلت له كن، فيكون"2.

فلاحظ أيّ مقام وسلطان هذا؟ وأيّة قدرة إلهية هذه التي تجعل إرادة الإنسان مظهراً لإرادة الله! فيلبس المعدومات لباس الوجود! هذه القدرة وهذا النفوذ هما أفضل وأرفع من كلّ النعم الجسمانية، وبديهي أنّ تلك الرسالة لم تُكتب عبثاً وجزافاً.

إنّ من كانت إرادته تابعة للشهوات الحيوانية، وعزيمته ميّتة خامدة لا يصل إلى هذا المقام. إنّ أعمال الله منزّهة عن العبث، فكما أنّ هذا العالَم قائم على أساس ترتيب الأسباب والمسبّبات، كذلك هو الحال في العالَم الآخر. بل إنّ كلّ نظام عالَم الآخرة قائم على الأسباب والمسبّبات، وإنّ نفوذ الإرادة يجب أن يتهيّأ من هذا العالَم، فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وهذا العالَم مادّة لكلّ نعم الجنّة ونقم النار.

إذاً كلّ عبادة من العبادات وكلّ منسك من المناسك الشرعية، فضلاً عن أنّ لها صورة أخروية وملكوتية، بها يتمّ عمارة الجنّة الجسمانية وقصورها، وتهيئة الغلمان والحور - طبقاً للبراهين والأحاديث - فإنّ لكلّ عبادة من العبادات أيضاً أثراً يحصل في النفس، ممّا يقوي إرادة النفس شيئاً فشيئاً ويصل بقدرتها إلى حدّ الكمال. لذا كلّما كانت العبادات أشقّ كانت مرغوبة أكثر: "أفضل الأعمال أحمزها 3 فالتنازل عن النوم اللذيذ في الشتاء البارد، والانصراف إلى عبادة الحقّ تعالى، يزيد من قوّة الروح وتغلّبها على قوى الجسم، ويقوّي الإرادة".

وإذا كان هذا في أول الأمر على شيء من المشقّة والعناء، فإنّ ذلك يخفّ تدريجياً كلّما واصل العبادة، وازدادت طاعة الجسم للنفس. لذا فإنّنا نُلاحظ أنّ أهل العبادة يقومون بالأعمال دون مشقّة وتكلّف. أمّا نحن فشعورنا بالكسل والمشقّة ناشئ من أنّنا لا نُقدم على العمل. فلو أننا بدأنا بالعمل وكرّرناه لعدّة مرّات، لتبدّلت المشقّة إلى راحة، بل إنّ أهلها يلتذّون بها أكثر ممّا نلتذّ نحن بمشتهيات الدنيا. إذاً بواسطة الإقدام والعمل تُصبح الأمور عادية، ويقع الخير عادة.

ولهذه العبادة ثمرات عديدة منها:
1- أنّ صورة العمل نفسه تُصبح على قدر من الجمال في ذلك العالَم بحيث إنّه لا يكون له نظير في هذا العالَم، ونكون عاجزين عن تصوّر مثلها.
2- أنّ النفس تُصبح ذات عزم واقتدار، فتكون لها نتائج كثيرة، وقد سمعت واحدة منها.
3- أنّها تجعل الإنسان يأنس بالذكر والفكر والعبادة، فيتوجّه القلب إلى مالك الملوك، وتحصل المحبّة لجمال المحبوب الحقيقي، ويخفّ تعلّق القلب وحبّه للدنيا والآخرة. وإذا حصلت الجذبة الإلهية، أمكن عندها إدراك حقيقة العبادة والسرّ الحقيقي للتذكّر والتفكّر، ولسقط كلا العالمين - الدنيا والآخرة - من نظره، ولأذهب تجلّي الحبيب غبار الرؤية الإثنينية من القلب، ولا يعرف أحد سوى الله الكرامة المعطاة لمثل هذا العبد؟!

وكما أنّ عزم الإنسان يقوى بواسطة الرياضات الشرعية والعبادات والمناسك وترك المشتهيات، فإنّه بواسطة المعاصي تتغلّب الطبيعة لديه وتضعف إرادته وعزمه.

* كتاب الإنسان والحياة.


1- أقاليم الملك: العين، اللسان، البطن، الفرج، اليد، الرجل.
2- راجع: الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج 2، ص 1561.
3- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 191.

2016-08-19