يتم التحميل...

عصمة سليمان عليه ‌السلام ومسألة عرض الصافنات الجياد وطلب الملك

سليمان عليه ‌السلام

إنّ سليمان النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم أحد الأنبياء وقد ملك من القدرة أروعها ومن السيطرة والسطوة أطولها، وآتاه الله الحكم والحلم والعلم، قال سبحانه :

عدد الزوار: 55

إنّ سليمان النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم أحد الأنبياء وقد ملك من القدرة أروعها ومن السيطرة والسطوة أطولها، وآتاه الله الحكم والحلم والعلم، قال سبحانه : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا1، وقال عز من قائل : ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا2، وعلّمه منطق الطير قال سبحانه : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ3, ووصف الله قدرته بقوله: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ4، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في توصيف قدرته وسعة علمه وعلو درجاته.

روى أصحاب السير : كان سليمان صلى الصلاة الأُولى، وقعد على كرسيه والخيل تعرض عليه حتى غابت الشمس. فقال : "آثرت حبَّ الخيل على ذكر ربّي، وأنّ هذه الخيل شغلتني عن صلاة العصر" فأمر برد الخيل فأخذ يضرب سوقها وأعناقها، لأنّها كانت سبب فوت صلاته5.

وفي بعض التفاسير أنّ المراد من "ردّوها" هو طلب رد الشمس عليه، فردّت فصلّى العصر6.

ويدّعي بعض هؤلاء أنّ ما ساقوه من القصة تدل عليه الآيات التالية، أعني قوله سبحانه : ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ7.

فهل لما ذكروه مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، أو أنّ الآيات تهدف إلى أمر آخر خفي على هؤلاء، وأنّهم أخذوا ما ذكروه من علماء أهل الكتاب، كما سيوافيك بيانه؟

ونقد هذه القصة المزعومة يتوقف على توضيح مفاد الآيات حتى يقف القارئ على أنّها من قبيل التفسير بالرأي، الممنوع، ومن تلفيقات علماء أهل الكتاب التي حمّلت على القرآن وهو بريء منها.
أقول :
١- (الصَّافِنَاتُ): جمع "الصافنة"، وهي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم، الواضعة طرف السنبك الرابع على الأرض حتى يكون على طرف الحافر.

٢- (الجِيَادُ): جمع "الجواد"، وهي السراع من الخيل، كأنّها تجود بالركض.

٣- (الخَيْرِ): ضد "الشر"، وقد يطلق على المال كما في قوله سبحانه : ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا8، والمراد منه هنا هي "الخيل"، والعرب تسمّي الخيل خيراً، وسمّى النبيُّ زيد الخيل ب‍ "زيد الخير" وقال صلى‌ الله عليه‌ وآله‌ وسلم: "الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة" وكيف لا يكون خيراً، وهو لم يزل يعد وسيلة الحياة في عامة الحضارات.

٤- (الحب) : ضد البغض، قال في اللسان : أحببته وحببته بمعنى واحد.

٥- (حُبَّ الخَيْرِ): بدل عن المفعول المحذوف، وتقديره إنّي أحببت الخيل حبَّ الخير، ويريد أنّ حبي للخيل نفس الحب للخير، لأنّ الخيل كما عرفت وسيلة نجاح الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية، خصوصاً عند الجهاد مع العدو والهجوم عليه، ويحتمل أن يكون ( حُبَّ الخَيْرِ ) مفعولاً لا بدلاً عن المفعول.

٦- (عَن ذِكْرِ رَبِّي) : بيان لمنشأ حبّه للخير وسببه، وأنّ حبه له ناش عن ذكر ربّه.

وتقدير الجملة : أحببت الخير حبّاً ناشئاً عن ذكر الله سبحانه وأمره، حيث أمر عباده المخلصين بالإعداد للجهاد ومكافحة الشرك وقلع الفساد بالسيف والخيل، ولأجل ذلك قمت بعرض الخيل، كل ذلك امتثالاً لأمره سبحانه لا إجابة لدعوة الغرائز التي لا يخلو منها إنسان كما أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ9.

ويجد نظير تلك الدعوة في الذكر الحكيم، قال سبحانه : ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ10.

٧- فاعل الفعل في قوله : ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ أي الصافنات الجياد والمقصود : إنّ الخيل أخذت بالركض حتى غابت عن بصره.

٨- انّ الضمير في قوله : ﴿رُدُّوهَا يرجع إلى الخيل التي تدل عليها الصافنات الجياد، والمقصود أنّه أمر بردّها عليه بعدما غابت عن بصره.

٩- وعند ذلك يطرح السؤال، وهو : أنّه لماذا أمر بالرد، وما كان الهدف منه؟ فبيّنه بقوله : ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ أي شرع بمسح أعراف خيله وعراقيبها بيده تقديراً لركابها ومربيها الذين قاموا بواجبهم بإعداد وسائل الجهاد.

إلى هنا اتضح مفاد مفردات الآية وجملها، وعلى هذا تكون الآيات هادفة إلى تصوير عرض عسكري قام به أحد الأنبياء ذوي السلطة والقدرة في أيّام ملكه وقدرته.

وحاصله
: انّ سليمان النبي (الذي أشار القرآن إلى ملكه وقدرته وسطوته وسيطرته على جنوده من الإنس والجن وتعرّفه على منطق الطير، إلى غير ذلك من صنوف قدرته وعظمته التي خصصها به بين الأنبياء) قام في عشية يوم بعرض عسكري، وقد ركب جنوده من الخيل السراع، فأخذت تركض من بين يديه إلى أنْ غابت عن بصره، فأمر أصحابه بردّها عليه، حتّى إذا ما وصلت إليه قام تقديراً لجهودهم بمسح أعناق الخيل وعراقيبها.

ولم يكن قيامه بهذا العمل صادراً عنه لجهة إظهار القدرة والسطوة أو للبطر والشهوة، بل إطاعة لأمره سبحانه وذكره حتى يقف الموحدون على وظائفهم، ويستعدوا للكفاح والنضال ما تمكنوا، ويهيّئوا الأدوات اللازمة في هذا المجال11.

وهذا هو الذي تهدف إليه الآيات وينطبق عليها انطباقاً واضحاً، فهلّم معي ندرس المعنى الذي فرض على الآيات، وهي بعيدة عن تحمّله وبريئة منه.

نقد التفسير المفروض على القرآن

إنّ في نفس الآيات قرائن وشواهد تدل على بطلان القصة التي اتخذت تفسيراً للآيات، وإليك بيانها :
١- انّ الذكر الحكيم يذكر القصة بالثناء على سليمان ويقول : ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ فاسلوب البلاغة يقتضي أن لا يذكر بعده ما يناقضه ويضادّه، فأين وصفه بحسن العبودية والرجوع إلى الله في أُمور دينه ودنياه، من انشغاله بعرض الخيل وغفلته عن الصلاة المفروضة عليه؟!

ولو فرضت صحة الواقعة، فلازم البلاغة ذكرها في محل آخر، لا ذكرها بعد المدح والثناء المذكورين في الآية.

٢- انّما يصح حمل قوله : ﴿أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي على ما جاء في القصة إذا تضمن الفعل ﴿أَحْبَبْتُ معنى الترجيح والاختيار، والتقدير أي أحببت حب الخير مقدّماً إيّاه على ذكر ربّي ومختاراً إيّاه عليه، وهو يحتاج إلى الدليل.

٣- ولو قلنا بالتضمين، فيجب أن يقال مكان (عَن ذِكْرِ رَبِّي) "على ذكر ربي"، أي أحببت حب الخير واخترته على ذكر الله، كما في قوله سبحانه : ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى12، وقوله تعالى : ﴿إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ13.

٤- انّ ضمير الفعل في قوله تعالى : ﴿تَوَارَتْ يرجع إلى الصافنات المذكورة في الآية، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس، وليست مذكورة في الآية، ودلالة لفظ ﴿بِالْعَشِيِّ عليها ضعيفة جداً.

٥- الضمير في قوله : ﴿رُدُّوهَا ـ على المختار ـ يرجع إلى الصافنات، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس، وهي غير مذكورة.

٦- انّ الخطاب في قوله : ﴿رُدُّوهَا على المختار متوجه إلى رؤساء الجنود وهو واقع موقعه، وعلى التفسير المنقول عن بعضهم14 يكون متوجهاً إلى الملائكة، وهو لا يناسب، إلاّ كونه منه سبحانه لعلوّه واستعلائه، لا من مثل سليمان بالنسبة إليهم.

٧- لا شك أنّ للصفوة من عباده سبحانه ولاية تكوينية ومقدرة موهوبة على التصرّف في الكون بإذنه سبحانه، لغايات مقدّسة لإثبات نبوّتهم وكونهم مبعوثين من الله سبحانه لهداية عباده، وتدلّ عليها آيات كثيرة تعرضنا لبعضها في كتابنا مفاهيم القرآن15. ولم يكن المقام هنا مناسباً للتحدّي حتى يتوصل إلى الإعجاز والتصرّف في الكون بالأمر برد الشمس، فإنّ الصلاة الفائتة لو كانت مفروضة فجبرانها بقضائها، ولو كانت مسنونة فلا إشكال في فوتها، فلم يكن هناك لزوم للتصرّف في الكون وأمر ملائكة الله بردّها حتى يأتي بالصلاة المسنونة.

٨- لو كان المراد من ﴿رُدُّوهَا طلب رد الشمس من ملائكته سبحانه، فاللازم أن يذكر الغاية من ردّها بأن يقول : حتى أتوضّأ وأُصلي، وليس لهذا ذكر في الآية، بل المذكور قوله : ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ، وهذا يعرب عن أنّ الغاية المترتبة على الرد هي مسح السوق والأعناق، لا التوضّؤ والصلاة.

٩- انّ تفسير المسح بالقطع، تفسير بلا دليل، إذ المتبادر من المسح هو إمرار اليد عليها لا قطعها واجتثاثها، ولو كان هذا هو المراد ممّا ورد في القصة فالأنسب أن يقول : فطفق ضرباً بالسوق، لا مسحاً.

١٠- انّ التفسير المذكور ينتهي إلى كذّاب الأحبار، وهو كعب الذي لم يزل يدسّ في القصص والأخبار بنزعاته اليهودية، ومن أراد أن يقف على دوره في الوضع والكذب وغير ذلك في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى أبحاثنا في الملل والنحل.

١١- انّ بعض المفسرين قاموا بتفسير قوله : ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ بمسحها بالماء كناية عن الوضوء. وهو في ضعفه كما ترى، إذ لو كان المراد ما ذكره ذلك البعض، فلماذا بدل الغسل بالمسح، والساقين بالسوق والعنق بالأعناق، مع أنّه لم يكن لسليمان إلاّ ساقان وعنق واحد؟

١٢. إنّ قتل الخيل التي عبّر عنها نفس سليمان (بالخير) بحجة أنّ الاشتغال بعرضها صار سبباً لفوت الصلاة أشبه بعمل إنسان لا يملك من العقل شيئاً، وحاشا سليمان الذي آتاه الله الحكم والعلم وسلّطه على الأرض من الإنس والجن والسماء، من هذا العمل الذي لا يقترفه السفلة من الناس إلاّ المجانين منهم، ولا العاديّون من السوقة، فضلاً عن أنبياء الله وأوليائه المنزّهين.

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره "سيد قطب" في تفسير هذه الآيات في تفسيره قال:

أمّا قصة الخيل : انّ سليمان عليه‌السلام استعرض خيلاً له بالعشي، ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب، فقال : ردّوها عليّ، فردّوها عليه، فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربّه.

وفي رواية : روي أنّه جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها، لأنّها كانت خيلاً في سبيل الله.

ثم قال : وكلتا الروايتين لا دليل عليها، ويصعب الجزم بشيء منها16.

والعجب من السيد أنّه أعطى الروايتين مكانة واحدة مع أنّ الأُولى تضاد حكم العقل، وسيرة الأنبياء والعلماء، لذلك يسهل الجزم ببطلانها، وأمّا الثانية فهي تنطبق على ظاهر الآيات كمال الانطباق، وهو المروي عن حبر الأُمّة ابن عباس.

وقد نقل الرواية الأُولى عن أُناس كانوا لا يتحرّزون من الأخذ عن الأحبار المستسلمين، فنقلها الطبري في تفسيره، عن السدي وقتادة، حتى أنّ الطبري مع نقله أُولى الروايتين اختار قول ابن عباس واستوجهه، وقال : إنّ نبي الله لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب سوى أنّه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها17.

ولا يقصر عنه ما نقله السيوطي في "الدر المنثور" من الأساطير حول هذه الخيول، فروي عن إبراهيم التميمي أنّه قال: كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة، فعقرها، وفي الوقت نفسه نقل قول ابن عباس في تفسير المسح : ظل سليمان يمسح أعراف الخيل وعراقيبها.

هذا حال التفسير المفروض على الآية، وهناك مستمسك آخر في مورد سليمان للمخطّئة نأتي به.


1- النمل : ١٥.
2- الأنبياء : ٧٩.
3- النمل : ١٦.
4- النمل : ١٧.
5- تفسير الطبري : ٢٣ / ٩٩ ـ ١٠٠، الدر المنثور : ٥ / ٣٠٩.
6- مجمع البيان ناسباً إلى " القيل " : ٤ / ٤٧٥.
7- ص : ٣٠ ـ ٣٣.
8- البقرة : ١٨٠.
9- آل عمران : ١٤.
10- الأنفال : ٦٠.
11- وقد اختار هذا التفسير السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء : ٩٥ ـ ٩٧، والرازي في مفاتيح الغيب : ٧ / ١٣٦، والمجلسي في البحار : ١٤ / ١٠٣ ـ ١٠٤ من الطبعة الحديثة.
12- فصلت : ١٧.
13- التوبة : ٢٣.
14- نسبه الطبرسي إلى " القيل " كما مرَّ.
15- لاحظ الجزء الأول : ٤٤٤ ـ ٤٤٦.
16- في ظلال القرآن الكريم : ٢٣ / ١٠٠.
17-  تفسير الطبري : ٣ / ١٠٠.

 

 

2016-06-14