يتم التحميل...

تساولات حول عصمته

يونس عليه السلام

ألف. ما معنى كونه مغاضباً ؟ ومن المغضوب عليه؟

عدد الزوار: 25

ألف. ما معنى كونه مغاضباً ؟ ومن المغضوب عليه؟

ب. ماذا يراد من قوله: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ؟

ج. كيف تجتمع العصمة مع اعترافه بكونه من الظالمين؟

هذه هي الأسئلة الحسّاسة في قصة يونس عليه‌ السلام، وقد تمسّك بها المخطّئة، وإليك توضيحها واحداً بعد واحد:

أمّا الأوّل:
فقد زعم المخطّئة أنّ معناه أنّه خرج مغاضباً لربِّه من حيث إنّه لم ينزل بقومه العذاب.

ولكنّه تفسير بالرأي، بل افتراء على الأنبياء، وسوء ظن بهم، ولا يغاضب ربَّه إلاّ من كان معادياً له وجاهلاً بحكمه في أفعاله، ومثل هذا لا يليق بالمؤمن فضلاً عن الأنبياء.

وإنّما كان غضبه على قومه لمقامهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من توبتهم، فخرج من بينهم 2.1

هكذا فسّره الإمام الرضا عليه ‌السلام عندما سأله المأمون عن مفاد الآية وقال: "ذلك يونس بن متى ذهب مغاضباً لقومه"3.

وأمّا الثاني:
أعني: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فالفعل، أعني: (نقدر)، من القدر بمعنى الضيق لا من القدرة، قال سبحانه: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ4، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ3، فمعنى الآية أنّه ظن أن لا يضيق عليه الأمر لترك الصبر والمصابرة مع قومه، لا بمعنى أنّه خطر هذا الظن بباله، بل كان ذهابه وترك قومه يمثل حالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر الله، فكانت مفارقته قومه ممثلة لحال من يظن بمولاه ذلك.

وأمّا تفسيره بأنّه ظن أنّه سبحانه لا يقدر عليه، فهو تفسير بما لا تصح نسبته إلى الجهلة من الناس فضلاً عن الأولياء والأنبياء.

وبما أنّ مفارقته قومه بلا إذن منه سبحانه ـ كان يمثل حال من يظن أن لا يضيّق مولاه عليه ـ ابتلاه الله بالحوت فالتقمه.

فوقف على أنّه ترك ما هو الأولى فعلاً، فندم على عمله ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ.

ونقل الزمخشري في كشّافه: عن ابن عباس أنّه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلاّ بك، قال: وما هي يا معاوية ؟ فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه؟

قال: هذا من القدر لا من القدرة. ثم أضاف صاحب الكشاف: يصح أن يفسر بالقدرة على معنى "أن لن نعمل فيه قدرتنا"، وأن يكون من باب التمثيل، بمعنى فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله، ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويردّه بالبرهان، كما يفعل المؤمن المحقق بنزعات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت6.

ولا يخفى أنّ ما نقله عن ابن عباس هو المعتمد، بشهادة استعماله في القرآن بمعنى الضيق، وهو المناسب لمفاد الآية، وأمّا الوجهان الآخران فلا يصح الركون إليهما، خصوصاً الوجه الأخير، لأنّ الأنبياء أجل شأناً من أن تحوم حول قلوبهم الهواجس الشيطانية حتى يعودوا إلى معالجتها بالبرهان، فليس له سلطان على المخلصين من عباده، وقد اعترف بذلك الشيطان وقال كما يحكيه سبحانه: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ7.

وأمّا السؤال الثالث:
فقد مرّ أنّ الظلم في اللغة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه، ولا شك أنّ مفارقته قومه وتركهم في الظرف القلق العصيب كان أمراً لا يترقب صدوره منه، وإن لم يكن عصياناً لأمر مولاه، فالعطف والحنان المترقب من الأنبياء غير ما يترقب من غيرهم، فلأجل ذلك كان فعله واقعاً غير موقعه.

ومن المحتمل أن يكون الفعل الصادر منه في غير موقعه هو طلبه العذاب لقومه وترك المصابرة، ويؤيده قوله سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ8، فالظاهر أنّ متعلّق النداء في الآية طلب نزول العذاب على قومه بقرينة قوله: ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ، أي كان مملوءاً غيضاً أو غماً، والمعنى: يا أيّها النبي لا تكن مثل صاحب الحوت، ولا يوجد منك مثل ما وجد منه من الضجر والمغاضبة، فتُبتلى ببلائه، فاصبر لقضاء ربك، فإنّه يستدرجهم ويملي لهم ولا تستعجل لهم العذاب لكفرهم.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ سبب لومه وردعه كان أمراً ثالثاً، وهو أنّه لمّا وقف على نجاة أُمّته غضب وترك المنطقة9.

والوجهان: الأوّل والثاني هما الصحيحان.

وممّا ذكرنا يعلم مفاد قوله سبحانه:  ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فشبّه حاله بالعبد الآبق، وذلك لما مرّ من أنّ خروجه في هذه الحال كان ممثلاً لإباق العبد من خدمة مولاه، فأخذه الله بذلك.

وعلى كل تقدير فالآيات تدل على صدور عمل منه كان الأليق بحال الأنبياء تركه، وهو يدور بين أُمور ثلاثة: أمّا ترك قومه من دون إذن، أو طلب العذاب وكان الأولى له الصبر، أو غضبه على نجاة قومه.

إلى هنا تم توضيح الآيات المهمة التي وقعت ظواهرها ذريعة لأُناس يستهترون بالقيم والفضائل ويستهينون بأكبر الواجبات تجاه الشخصيات الإلهية.


* اية الله جعفر السبحاتي /مفاهيم قرانية ج 5.


1- مطبوعة منتشرة.
2- تنزيه الأنبياء: ١٠٢.
3- بحار الأنوار: ١٤ / ٣٨٧.
4- الطلاق: ٧.
5- الإسراء: ٣٠.
6- الكشاف: ٢ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦.
7- ص: ٨٣.
8- القلم: ٤٨.
9- بحار الأنوار: ١٤ / ٣٨.

2016-06-14