يتم التحميل...

البُعد الديني والبُعد الأخلاقي

فلسفات أخلاقية

الخير منه واجب كالجهاد والعدل والوفاء بالأمانة، ومنه مستحب كالحلم والعفو والبذل في بعض الأحيان، وعليه يسوغ القول: كل واجب هو خير وحسن وفضيلة،

عدد الزوار: 17

الخير منه واجب كالجهاد والعدل والوفاء بالأمانة، ومنه مستحب كالحلم والعفو والبذل في بعض الأحيان، وعليه يسوغ القول: كل واجب هو خير وحسن وفضيلة، وليس كل خير وحسن بواجب.. هذا من وجهة شرعية فقهية لا مرية فيه، ولكن هل الامر أيضاً كذلك من الوجهة الأخلاقية بحيث إذا تر الإنسان ما هو مندوب شرعاً كالصدقة المستحبة ـ مثلاً ـ لا يحط ذلك من قدره وكرامته من الوجهة الخلقية، أو أن كل خير هو واجب أخلاقي حتى ولو كان مستحباً في الفقه والشرع، ومن تركه فقد اقترف جريمة في نظر الأخلاق؟.

اختلفت الإجابة عن هذا السؤال تبعاً لمشاعر المجيب وميوله ونظره من زاوية معارفه وعقيدته. ونحن لا نفرق بين الأحكام الشرعية والأحكام الأخلاقية واجبة كانت أم مندوبة، وبالتعبير الدارج لا فرق عندنا بين البعد الديني والبعد الأخلاقي، فكل واجب او مستحب شرعاً هو كذلك من وجهة إنسانية وأخلاقية، وبالعكس، وآية ذلك:

أولاً أن الأحكام الشرعية والأحكام الأخلاقية تستقي من معين واحد، فمصادر الأولى: الكتاب والسنة والعقل والاجماع الكاشف عن حكم الله تعالى، ومصادر الإلزام الخلقي: الوحي والعقل والفطرة النقية كما سبقت الإشارة إليه، وهذي بالذات مصادر للأحكام الشرعية أيضاً، قال سبحانه: (فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (30 ـ الروم). وفي الحديث (أصل ديني العقل) ولا دين لمن لا عقل له، وكفى دليلاً على ان كل ما هو خلقي فهو إسلامي قول الرسول الأعظم (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فانه يكشف عن الصلة الوثيقة بين الإسلام والأخلاق ثانياً ان نور العقل والفطرة فيض من صانعهما الذي أودع فيهما الاحساس بالخير والشر والإلزام تركاً لهذا وفعلاً لذاك (انظر فقرة إلى الله ترجع الامور من فصل حول الأخلاق).

ونستخلص من كل ذلك وغير ذلك أيضاً أن الأحكام الأخلاقية تماماً كالأحكام الشرعية، فيها الوجوب والندب، والحرمة والكراهة، أجل إن النفوس النبيلة الفاضلة هي وحدها التي لا تفرق بين واجب ومندوب، ولا بين محرم ومكروه، ولسنا بصدد الكلام عن هذه القلة القليلة، وإنما نتحدث عن أخلاق الكثرة الكاثرة أمثال الذين عناهم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: ((ألا وان إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وانكم لا تقدرون على ذلك ولكن اعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد)) فان في ذلك كفاية المكتفي ديناً وأخلاقاً.

وربما يُفرق بين الحكم الشرعي والحكم الأخلاقي في عبادة من عبد الله سبحانه لا شكراً لأنعمه، بل رهبة من عذابه او رغبة في ثوابه حيث تُقبل عبادته ويخرج بها عن عهدة التكليف الشرعي لأن الفاصل هنا غير أجنبي ـ على حد تعبير النحاة ـ وإن لم تك هذه العبادة من الأخلاق في الأفق الأعلى.. ولكن لنا أن نقول بلا تحفظ إن الدوافع الأخروية كلها أخلاقية مئة بالمئة لأن الخوف منه تعالى بذاته أيضاً عبادة، أما الطمع في فضله فعزة وكرامة. وسنتكلم عن ذلك مفصلاً في فقرة خاصة بعنوان (عبادة الله خوفاً أو طمعاً) من فصل النية. فإلى هناك.

الخير درجات

الواجبات والإلزامات بالخير منها الأهم كالإلزام بالجهاد وانقاذ الغريق، ومنها المهم كالحج بالنسبة إلى الجهاد، قال سبحانه: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى) (10 ـ الحديد). وفي نهج البلاغة: (درجات متفاضلات، ومنازل متفاوتات) ولا يحتاج هذا إلى دليل وبيان لأن الجزاء على قدر العطاء كماً وكيفاً بحكم البديهة.

وكذلك الشأن في المحرمات، منها كبائر كالعدوان على الأنفس والأموال، قال الأمام أمير المؤمنين(عليه السلام): بئس الزاد العدوان على العباد. ومنها صغائر، ومن جملة ما قلنا في التفسير الكاشف عند شرح الآية 31 من النساء ج 2 ص 306: ((ان الذنوب جميعاً في نفسها كبائر، وإنما تقسم إلى كبائر وصغائر بمقارنة بعضها بعضها إلى بعض ـ مثلا ـ النظر إلى أجنبية بريبة ذنب كبير في نفسه، صغير بالنسبة إلى القبُلة، والقبلة صغيرة بالنسبة إلى الزنا، وكذا الأكل على مائدة الخمر كبير في نفسه صغير بالقياس إلى شرب الخمر، ولكن الصغيرة مع الإصرار عليها تتحول إلى كبيرة كما أن الكبيرة تُمحى من الأساس مع التوبة والاستغفار لحديث (لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار). وقال سبحانه: (واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى) (82 ـ طه).

مضاعفة العذاب

وهنا نشير إلى إشكال مع الإجابة عنه، قال سبحانه: (ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها وهم لا يُظلمون) (160 ـ الأنعام). فقد حصر سبحانه في هذه الآية جزاء السيئة بمثلها، وهذا حق وعدل، ولكنه قال تعالى في آية ثانية: (ومن يفعل ذلك ـ إشارة إلى ما نهى عنه ـ يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة) (69 ـ الفرقان). وهذا بظاهرة يصطدم ويتعارض مع الجزاء بالمثل لأن معنى المضاعفة الزيادة، فما هو طريق الجمع بين الآيتين؟.

الجواب:
أولاً إن المضاعفة هنا كناية عن هول العذاب وشدته. ثانياً إن المذنب على نوعين: الأول ظالم نفسه وكفى كمن ترك فرضا من عبادة ـ مثلاً ـ وهذا ونحوه هو المقصود بآية (بلا يجزى إلا مثلها).
الثاني يتعدى وزره ويسري إلى الآخرين كمن (سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة). وهذا ومن على شاكلته المقصود بمضاعفة العذاب.. هذا، إلى أن من كفر بالله أو أشرك به أو اعتدى على حرية الآخرين وكرامتهم وأشيائهم ـ يقلّ في حقه أيّ عذاب مهما تضاعف وتكاثف.

2016-03-09