يتم التحميل...

مصير الأمم

الأمة والمجتمع

حينما أراد أن يتحدّث عن انكسار المسلمين في غزوة أُحُد ـ بعد أن أحرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر ـ تحدّث القرآن الكريم عن هذه الخسارة، ماذا قال؟

عدد الزوار: 19

1- سنّة النصر، حقٌّ طبيعيٌّ لا إلهيٌّ
حينما أراد أن يتحدّث عن انكسار المسلمين في غزوة أُحُد ـ بعد أن أحرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر ـ تحدّث القرآن الكريم عن هذه الخسارة، ماذا قال؟ هل قال بأنّ رسالة السماء خسرت المعركة بعد أن كانت ربحت المعركة؟

.. لأنّ رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى الماديّ، رسالة السماء لا تُهزم، ولن تُهزم أبداً، ولكن الذي يهزم هو الإنسان، حتّى ولو كان هذا الإنسان مجسّداً لرسالة السماء، لأنّ هذا الإنسان تتحكّم فيه سنن التاريخ. ماذا قال القرآن؟ ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس3.

هنا أخذ يتكلّم عنهم بوصفهم أناساً. قال بأنّ هذه القضيّة هي في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ. المسلمون انتصروا في بدرٍ حينما كانت الشروط الموضوعيّة للنصر ـ بحسب منطق سنن التاريخ ـ تفرض أن ينتصروا، وخسروا المعركة في أحد، حينما كانت الشروط الموضوعيّة ـ بحسب نفس المنطق ـ في معركة أُحُد تفرض عليهم أن يخسروا المعركة، ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسآل_عمران:140."4.

لا تتخيّلوا أنّ النصر حقٌّ إلهيٌّ لكم، وإنّما النصر حقٌّ طبيعيٌّ لكم، بقدر ما يمكن أن توفّروا الشروط الموضوعيّة لهذا النصر، بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه وتعالى كونيّاً لا تشريعيّاً، وحيث إنّكم في غزوة أُحُد لم تتوفّر لديكم هذه الشروط خسرتم المعركة.

2- سنّة الامتحان
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ5.
يستنكر القرآن عليهم أن يأملوا في أن يكون لهم استثناء من سنّة التاريخ، هل تطمعون أن يكون لكم استثناء من سنّة التاريخ. وأن تدخلوا الجنّة وأن تحقّقوا النصر، وأنتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الأمم، التي انتصرت ودخلت الجنّة، من ظروف البأساء والضرّاء التي تصل إلى حدّ الزلزال، على حدّ تعبير القرآن الكريم؟ إنّ حالات البأساء والضرّاء التي تتعملق على مستوى الزلزال، هي في الحقيقة مدرسةٌ للأمّة، هي امتحان لإرادة الأمّة، لصمودها، لثباتها، لكي تستطيع بالتدريج أن تكتسب القدرة على أن تكون أمّةً وسطاً بين الناس.

إذ، نصر الله قريبٌ. لكن نصر الله له طريقٌ. نصر الله ليس أمراً عفويّاً، ليس أمراً على سبيل الصدفة، ليس أمراً

عمياويّاً. نصرُ الله قريبٌ ولكن اهتدِ إلى طريقه. الطريق لا بدّ وأن تعرف فيه سنن التاريخ، لا بدّ وأن تعرف فيه منطق التاريخ، لكي تستطيع أن تهتدي إلى نصر الله سبحانه وتعالى. قد يكون الدواء قريباً من المريض، لكن إذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلميّة، التي تؤدّي إلى إثبات أنّ هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء، لا يستطيع أن يستعمل هذا الدواء حتّى ولو كان قريباً منه.

فالاطّلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكّن الإنسان من التوصّل إلى النصر. فهذه الآية تستنكر على المخاطبين بها أن يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ.

الشروط الموضوعيّة للنصر
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِين6.

هذه الآية أيضاً تثبّت قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، تحدّثه عن التجارب السابقة، تربطه بقانونها، توضّح له أنّ هناك سنّةً تجري عليه، وتجري على الأنبياء الذين مارسوا هذه التجربة من قبله، وأنّ النصر سوف يأتيه، ولكن للنّصر شروطه الموضوعيّة: الصبر، والثبات، واستكمال باقي الشروط. هذا هو طريق الحصول على هذا النصر، ولهذا تقول الآية: ﴿فَصَبرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله.

إذاً هناك كلمة اللّه لا تتبدّل على مرّ التاريخ، هذه الكلمة التي لا تتبدّل على مرّ التاريخ، هي علاقةٌ قائمةٌ بين مجموعةٍ من الشروط والقضايا والمواصفات، وضّحت من خلال الآيات المتفرّقة وجمعت على وجه الإجمال هنا. إذاً فهناك سنّة التاريخ.

﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً7.

﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً8.

3- إخراج النبيّ يستتبع هلاك المجتمع
﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً9.
هذه الآية الكريمة الأخيرة أيضاً تؤكّد المفهوم العامّ، حيث تقول: ﴿وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً. هذه سنّة سلكناها مع الأنبياء من قبلك، وسوف تستمرّ ولن تتغيّر. أهل مكّة يحاولون أن يستفزّوك لتخرج من مكّة، لأنّهم عجزوا عن إمكانيّة القضاء عليك، وعلى كلمتك وعلى دعوتك، ولهذا صار أمامهم طريقٌ واحدٌ: إخراجك من مكّة.

وهناك سنّة من سنن التاريخ وهي أنّه إذا وصلت عمليّة المعارضة إلى مستوى إخراج النبيّ من هذا البلد، بعد عجزها عن كلّ الوسائل والأساليب الأخرى، فإنّهم لا يلبثون إلاّ قليلاً. ليس المقصود أنّه سوف ينزل عليهم عذاب الله سبحانه وتعالى من السماء، لأنّ أهل مكّة أخرجوا النبيّ بعد نزول هذه السورة، استفزّوه وأرعبوه وخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم  من مكّة إذ لم يجد له ملجأً وأماناً في مكّة، فخرج إلى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكّة، وإنّما المقصود ـ في أكبر الظنّ من هذا التعبير ـ أنّهم لا يمكثون كجماعةٍ صامدةٍ معارضةٍ، يعني كموقعٍ اجتماعيٍّ لا يمكثون، لا كأناسٍ، كبشرٍ، لأنّ هذه النبوّة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها، سوف تستطيع بعد ذلك أن تهزّ هذه الجماعة كموقعٍ للمعارضة، وهذا ما وقع فعلاً.

4- سنّة الاستبدال
يهدّد هذه الجماعة البشريّة التي كانت أنظف وأطهر جماعةٍ على مسرح التاريخ، يهدّدهم بأنّهم إذا لم يقوموا بدورهم التاريخيّ، وإذا لم يكونوا على مستوى مسؤوليّة رسالة السماء فإنّ هذا لا يعني أن تتعطّل رسالة السماء، ولا يعني أن تسكت سنن التاريخ عنهم، بل إنّهم سوف يُستبدلون. سنن التاريخ سوف تعزلهم، وسوف تأتي بأممٍ أخرى قد تهيّأت لها الظروف الموضوعيّة الأفضل لكي تلعب هذا الدور، لكي تكون شهيدةً على الناس، إذا لم تتهيّأ لهذه الأمّة الظروف الموضوعية لهذه الشهادة:

﴿إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ10.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ11.

إذاً فالقرآن الكريم إنّما يتحدّث مع الجانب الثاني من عمليّة التغيير، يتحدّث مع الإنسان في ضعفه وقوّته، في استقامته وانحرافه، في توفّر الشروط الموضوعيّة له وعدم توفّرها.

5- سنّة تغيير البناء العلويّ الاجتماعيّ
﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ12. المكوّن الإنساني يحتوي على عنصرين أساسيّين: أحدهما المحتوى الداخليّ النفسيّ الروحيّ للإنسان وهو القاعدة. والآخر هو الوضع الاجتماعيّ وهو البناء العلويّ. لا يتغيّر هذا البناء العلويّ إلّا وفقاً لتغيّر القاعدة.

هذه الآية إذاً تتحدّث عن علاقةٍ معيّنة بين القاعدة والبناء العلويّ، بين الوضع النفسيّ والروحيّ والفكريّ للإنسان، وبين الوضع الاجتماعيّ، بين داخل الإنسان وبين خارج الإنسان، فخارج الإنسان، يصنعه داخل الإنسان، مرتبط بداخل الإنسان، فإذا تغيّر ما بنفس القوم تغيّر وضعهم، وعلاقاتهم، والروابط التي تربط بعضهم ببعض.

إذاً فهذه سنّة من سنن التاريخ، ربطت القاعدة بالبناء العلويّ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ13.

 6- سنّة التناقض بين النبوّة والمترفين

﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ14.

 هذه علاقةٌ قائمةٌ بين النبوّة على مرّ التاريخ، وبين موقع المترفين والمسرفين في الأمم والمجتمعات. هذه العلاقة تمثّل سنّةً من سنن التاريخ، وليست ظاهرةً وقعت في التاريخ صدفةً، وإلا لما تكرّرت بهذا الشكل المطّرد، ولَما قال ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا. إذاً هناك علاقةٌ سلبيّةٌ، هناك علاقةُ تطاردٍ وتناقضٍ، بين موقع النبوّة الاجتماعيّ في حياة الناس على الساحة التاريخيّة، والموقع الاجتماعيّ للمترفين والمسرفين. هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوّة، ودور المترفين والمسرفين في المجتمع. هذه العلاقة جزءٌ من رؤيةٍ موضوعيّةٍ عامّةٍ للمجتمع. النقيض الطبيعيّ للنبوّة هو موقع المترفين والمسرفين.

﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً15.

هذه الآية أيضاً تتحدّث عن علاقةٍ معيّنةٍ، بين ظلمٍ يسود وظلمٍ يسيطر، وبين هلاكٍ تُجرّ إليه الأمّة جرّاً. وهذه العلاقة أيضاً الآية تؤكّد أنّها علاقةٌ مطلقةٌ، علاقةٌ مطّردةٌ على مرّ التاريخ، وهي سنّةٌ من سنن التاريخ.

7- سنّة عدالة التوزيع ووفرة الإنتاج

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ16.

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ17.

﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً18، ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ19.

﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ20.

 هذه الآيات أيضاً تتحدّث عن علاقةٍ معيّنةٍ، هي علاقةٌ بين الاستقامة وتطبيق أحكام الله سبحانه وتعالى، وبين وفرة الخيرات ووفرة الإنتاج، وبِلُغَة اليوم: بين عدالة التوزيع وبين وفرة الإنتاج. القرآن يؤكّد أنّ المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع يزداد ثراءً العدالة التي عبّر عنها القرآن تارةً بأنّه ﴿لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا، وأخرى بأنّه ﴿لو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا وثالثة بأنّه ﴿لو أنّهم أقاموا التّوراة والإنجيل، لأنّ شريعة السماء نزلت من أجل تقرير عدالة التوزيع، من أجل إنشاء علاقات التوزيع على أسسٍ عادلةٍ، يقول لو أنّهم طبّقوا عدالة التوزيع، إذاً لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة، لما وقعوا في فقرٍ من هذه الناحية، بل لازداد الثراء، ولازداد المال، وازدادت الخيرات والبركات. لكنّهم تخيّلوا أنّ عدالة التوزيع تقتضي الفقر، تقتضي التقسيم، وبالتالي تقتضي فقر الناس، بينما الحقيقة أنّ السنّة التاريخيّة تؤكّد عكس ذلك، تؤكّد بأنّ تطبيق شريعة

السماء، وتجسيد أحكامها في علاقات التوزيع، تؤدّي دائماً وباستمرار إلى وفرة الإنتاج والى زيادة الثروة، إلى أن يفتح على الناس بركات السماء والأرض. إذاً هذه أيضاً سنّة من سنن التاريخ.

الخلاصة
هناك عدّة سنن تاريخيّة تعرض لها القرآن الكريم، نشير إلى بعضٍ منها:

1 ـ سنّة النصر: إنّ رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى الماديّ. إنّ رسالة السماء لا ولن تُهزم أبداً، والذي يهزم هو الإنسان، فالمسلمون انتصروا في بدرٍ حينما كانت الشروط الموضوعيّة للنصر  - بحسب منطق سنن التاريخ  -  تفرض أن ينتصروا، وخسروا المعركة في أحد، حينما كانت الشروط الموضوعيّة - بحسب نفس المنطق - في معركة أُحُد تفرض عليهم أن يخسروا المعركة. فالنصر ليس حقّاً إلهيّاً للمسلمين، وإنّما هو حقٌّ طبيعيٌّ لهم، بقدر ما يمكن أن يوفّروا الشروط الموضوعيّة لهذا النصر، ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.

2 ـ سنّة الامتحان: إنّ حالات البأساء والضرّاء التي تتعملق على مستوى الزلزال، هي في الحقيقة امتحان لإرادة الأمّة، لصمودها، لثباتها، لكي تستطيع بالتدريج أن تكتسب القدرة على أن تكون أمّةً وسطاً بين الناس، فهل يطمع المسلمون في أن يكون لهم استثناء من سنّة التاريخ! وأن يدخلوا الجنّة وأن يحقّقوا النصر، وهم لم يعيشوا ما عاشته تلك الأمم، التي انتصرت ودخلت الجنّة؟ إنّ نصر الله قريبٌ، لكن له طريقٌ وليس أمراً عفويّاً.

للنّصر شروطه الموضوعيّة: الصبر، والثبات، واستكمال باقي الشروط، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر، ولهذا تقول الآية: ﴿فَصَبرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ.

3 ـ إخراج النبيّ يستتبع هلاك المجتمع: هذه سنّة من سنن التاريخ تقول إنّه إذا وصلت عمليّة المعارضة إلى مستوى إخراج النبيّ من هذا البلد، بعد عجزها عن كلّ الوسائل والأساليب الأخرى، فإنّهم لا يلبثون إلاّ قليل، بمعنى أنّهم لا يمكثون كجماعةٍ صامدةٍ معارضةٍ وكموقعٍ اجتماعيٍّ، لا يمكثون إلا قليلاً.

4 ـ سنّة الاستبدال: إذا لم يكن جماعة من الناس على مستوى مسؤوليّة رسالة السماء فإنّ هذا لا يعني أن تتعطّل رسالة السماء، ولا يعني أن تسكت عنهم سنن التاريخ، بل إنّهم سوف يُستبدلون وتأتي أممٌ أخرى قد تهيّأت لها الظروف الموضوعيّة الأفضل لكي تلعب هذا الدور، لكي تكون شهيدةً على الناس، إذا لم تتهيّأ لهذه الأمّة الظروف الموضوعية لهذه الشهادة. والقرآن يتحدّث عن الجانب الثاني من عمليّة التغيير، يتحدّث مع الإنسان في ضعفه وقوّته، في استقامته وانحرافه، في توفّر الشروط الموضوعيّة له وعدم توفّرها.

5 ـ سنّة تغيير البناء العلويّ الاجتماعيّ: المحتوى الداخليّ النفسيّ الروحيّ للإنسان هو القاعدة. الوضع الاجتماعيّ هو البناء العلويّ. لا يتغيّر هذا البناء العلويّ إلاّ وفقاً لتغيّر القاعدة، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، فخارج الإنسان يصنعه داخل الإنسان.

6 ـ سنّة التناقض بين النبوّة والمترفين: هناك علاقةٌ قائمةٌ بين النبوّة وموقع المترفين والمسرفين في المجتمعات، علاقةُ تطاردٍ وتناقضٍ، ترتبط بدور النبوّة ودور المترفين في المجتمع، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ.

7 ـ سنّة عدالة التوزيع ووفرة الإنتاج: سنّة العلاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام اللّه وبين وفرة الخيرات والإنتاج. فالمجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع لا يقع في ضيق من ناحية الثروة المنتجة، ويزداد فيه الثراء ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً

*مصير الأمم، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1-  محمّد:10.
2-  يوسف: من الآية/109.
 3- آل عمران: من الآية / 140.
4- ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَآل عمران:140.
5-  البقرة:214.
 6- الأنعام:34.
 7- فاطر: من الآيتين/42 و43.
8-  الفتح/22 و 23.
 9- الإسراء/76 و77.
 10- التوبة/39.
 11- المائدة/54.
12-  الرعد: من الآية11.
13- الأنفال: من الآية53.
14- سـبأ/34 و35.
15- لإسراء/16 و 17.
16- المائدة: من الآية66.
17- الأعراف/96.
 18- الجنّ/16.
19- الزخرف/22.
20-  الزخرف/23.

2016-02-24