يتم التحميل...

حجة الوداع

سيد المرسلين

تُعتبر مراسيم الحج ومناسكه من أعظم العبادات الاسلامية الجماعية التي يؤديها المسلمون، جلالاً واُبهة، وذلك لأنّ أداء مراسيم الحج ومناسكه في كل سنة مرة واحدة يُمثِّلُ بالنسبة للاُمة الإسلامية أكبر مظاهر الاتحاد والوحدة

عدد الزوار: 26

تُعتبر مراسيم الحج ومناسكه من أعظم العبادات الاسلامية الجماعية التي يؤديها المسلمون، جلالاً واُبهة، وذلك لأنّ أداء مراسيم الحج ومناسكه في كل سنة مرة واحدة يُمثِّلُ بالنسبة للاُمة الإسلامية أكبر مظاهر الاتحاد والوحدة، ودليلاً كاملاً على الترفع على المناصب والدرجات وتكونُ نموذجاً بارزاً للمساواة بين جميع أبناء البشر، وسبيلاً إلى تقوية أواصر الاُخوة المتينة بين المسلمين، فاذا كان المسلمون لا ينتفعون بهذه المائدة الكبرى التي منحها ربُهم لهم، واذا كانُوا لا يستفيدون من هذا المؤتمر الاسلامي السنوي العظيم (الذي يمكنه بِحقِّ أن يجيبَ ويعالج الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية، ويكون نقطة تحول عميق في حياتنا) استفادة كاملة لائقة، فانَّ ذلك ليس - وبدون ريب او شك - ناشئاً من قصور في القانون الاسلامي، بل هو دليل على قصور قادة المسلمين وتقصير حُكامهم الذين لا يُولون هذه المراسم وهذا الموسم العظيم إهتماماً مناسباً، ولا يفكرون في استغلاله على الوجه المطلوب.

فمنذ أن فرغ إبراهيم الخليل عليه السَّلام من اقامة صرح الكعبة المعظَّمة ودعا الموحِّدين إلى زيارتها، والحج إليها لم تزل هذه البنية الشريفة كعبة القلوب، ومطاف الشعوب والاقوام والجماعات الموحّدة التي تأتي اليها كل عام من شتى نقاط العالم، ومن مختلف أنحاء الجزيرة العربية، ويؤدُّون عندها المناسك التي علّمها إياهم النبيُ العظيمُ ابراهيم الخليل عليه وعلى نبينا السَّلام.

ولكن تقادم العهد، وانقطاع شعب الحجاز عن قيادة الأنبياء، وأنانية قريش، وسيادة الوثنية على عقول العرب أوجب أن تتعرض مراسم الحج ومناسكه - من حيث الزمان والمكان - لعملية تحريف وتغيير، وان تفقد صبغتها الحقيقية ووجهها الواقعيّ.

لهذه الجهات اُمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في السنة العاشرة من الهجرة، ومن قِبَلِ اللّه سبحانه ان يشارك في مراسم الحج شخصياً، ويقوم بتعليم مناسك الحج للناس، ويوقفَهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عملياً، كما يقوم بإزالة كلِّ ما علِق بها من زوائد طيلة السنوات الغابرة، ويعيّنُ حدود "عرفات" و"منى" ويوم الإفاضة منها ولهذا فانّ السفر كان سفراً ذا طابع تعليمي، قبل أن يكون ذا طابع سياسيّ واجتماعي.

أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الشهر الحادي من العام العاشر للهجرة (أي شهر ذي القعدة) بأن ينادى في المدينة وبين القبائل بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقصد مكة للحج هذا العام، فاحدث هذا الاعلان شوقاً وابتهاجاً عظيمين في نفوس جمع كبير من المسلمين، فتهيّأ عدد هائل منهم لمرافقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وضربت مضارب وخيم كثيرة خارج المدينة المنورة بانتظار حركة النبي صلّى اللّه عليه وآله وتوجّهه الى مكة1.

وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ذي القعدة خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من المدينة متوجهاً الى مكة وقد استخلف مكانه في المدينة أبا دجانة الانصاري، وقد ساق معه ما يزيد عن ستين بدنة.

وعندما بلغ الموكب النبويُّ العظيمُ إلى "ذي الحليفة" (وهي نقطة فيها مسجد الشجرة أيضاً) أحرم بلبس قطعتين عاديتين من القماش الأبيض من مسجد الشجرة، ودخل الحرم، ولبّى عند الاحرام قائلاً:"لبَّيكَ اللّهمَ لبَّيك لبّيك لا شريكَ لكَ لبيك إن الحمد والنعمة لك والملكَ لبَّيكَ لا شريك لكَ لبَّيك".

وهو بذلك يلبي نداء إبراهيم، كما أنّه صلّى اللّه عليه وآله كان يكرّر هذه التلبية كلّما شاهد راكباً، أو علا مرتفعاً من الأرض، أو هبط وادياً.

ولما شارف مكة قطع التلبية المذكورة.

وفي اليوم الرابع من شهر ذي الحجة، دخل صلّى اللّه عليه وآله مكة المكرمة وتوجّه نحو المسجد الحرام رأساً، ثم دخله من باب بني شيبة وهو يحمد اللّه ويثني عليه ويصلي على إبراهيم عليه السَّلام.

ثم بدأ من الحجَر الأسود فاستلمه2 أولاً، ثم طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم وعندما فرغ من صلاته سعى بين الصفا والمروة3 ثم التفت إلى حجاج بيت اللّه الحرام وقال:"مَن لم يسُق منكُم هدياً فليُحلَّ وليجعَلها عُمرة (أي فليقصِّر أي يأخذ من شعره وظفره فيحلّ له ما حرم عليه بالاحرام) ومن ساق منكُم هدياً فليُقِم على إحرامه".

وقد كرَه البعضُ هذا واعتذَروا بانه يعزُّ عليهم (أو لا يلذُّ لهم) أن يخرجوا من الاحرام فيحلّ لهم ما يحرم على المحرم فيلبسوا الثياب ويقربوا النساء ويتدهنوا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على إحرامه أشعث أغبر.

وربّما قالوا: لا يصحُّ هذا، كيف تقطر رؤوسنا من الغسل4 ونحنُ زوّار بيت اللّه؟

فالتفت النبي صلّى اللّه عليه وآله الى عُمر وكان ممن بقي على احرامه وقال له: ما لي أراك يا عمر مُحرماً؟ أسقتَ هدياً؟

قال عُمر: لم أسُق.
فقال النبيُ: فلِم لا تُحِلّ وقد أمرتُ من لم يسُق بالإحلال؟
قال عمر: واللّه يا رسول اللّه لا أحللتُ وانت محرم.


فغضب النبيُ لموقف الناس المتلكي هذا وقال:"لو كنتُ استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لَفعلتُ كما أمرتكم".

وهو صلّى اللّه عليه وآله يعني: أنني لو كنتُ أعلم بالمستقبل ولو عرفت بموقف الناس المتردّد وخلافهم هذا من قبل لما سقتُ الهدي، ولفعلتُ ما فعلتموه من عدم سوق الهدي، ولكن ماذا عساي أن أفعل الآن وقد سقتُ الهدي، ولا يمكنني الإحلالُ من الإحرام، فيجبُ عليَّ أن أبقى على إحرامي "حتى يبلغ الهديُ محِلَّه" أي أنحرُ هديي بمنى كما أمر اللّه سبحانه، وأما أنتم فمَن لم يَسُق الهديَ منكم فانَّ عليه أن يُحلَّ إحرامه، واحسبوها عمرة، ثم أحرموا للحج مرة اُخرى5.

الامام علي يعود من اليمن
لما علم علي عليه السَّلام بتوجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الى مكة للمشاركة في مراسم الحج خرج هو وجنوده وقد ساق معه (34) هدياً للمشاركة في الحج، واصطحب حُلَلاً من بزّ اليمن وحريرها قد أخذها من اهل نجران وهي الجزية التي تقرَّر دفعُها الى النبي صلّى اللّه عليه وآله.

ولقد تعجل عليّ عليه السَّلام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واستخلف على جنده الذين خرجوا معه إلى الحج رجلاً من أصحابه لقيادتهم حتى مكة، فالتحق برسول اللّه ولقيه على مشارف مكة فسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله به، وبما أحرزَه من نجاحات في مهمته التي بعثه بها إلى أرض اليمن، وقد أخبر بها النبي صلّى اللّه عليه وآله على وجه التفصيل.

فلما فرغ من بيان اخبار سفره قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: انطلِق فطف بالبيت، وحِلَّ كما حلَّ أصحابك.
فقال علي: يا رسول اللّه إني اهللتُ كما أهللت.
فسأله النبيُ صلّى اللّه عليه وآله عن كيفية إهلاله ساعة أحرم للحج فقال علي عليه السَّلام: يا رسول اللّه إني قلتُ حين أحرمتُ: اللّهمَ إني اُهلُّ بما أهلَّ به نبيُّك وعبدُك ورسولُك محمَّد صلّى اللّه عليه وآله.
قال النبي وقد أخبره بانه يشاركه في الحكم مادام أهلّ بهذه الكيفية: فهل معكَ هدي؟
قال علي: نعم وهو يشير إلى الهدي الذي ساقه معه من اليمن.

فأشركه رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الحكم، وثبت على إحرامه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى فَرغا عن الحج ونحر رَسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله الهديَ عن نفسه، كما نحر علي هديه أيضاً6.

ثم إِن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمر علياً السلام بأن يرجع الى جنوده الذين فارقهم، ويصطحبهم الى مكة، فلما رجع علي عليه السلام إِليهم وجد أن الرجل الذي استخلفه على اولئك الجنود قد عمد فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذي كان قد أخذه علي من أهل نجران ليسلّمها الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فانزعج من هذا التصرّف غير المشروع وقال له: ويلك ما هذا؟

قال: كسوتُ القوم ليتجمّلوا به اذا قدموا في الناس بمكة فقال علي عليه السلام: ويلك! أنزع قبل أن تنتهي إِلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فانتزع ذلك الرجل الحلل من الجنود، وردّها إِلى مكانها مع الأشياء الاُخرى من جزيه أهل نجران.

فانزعج جماعة من اولئك الجنود ممن يزعجهم العدل والنظام دائماً ويريدون أن تسير الامور وفق أهوائهم ومشتهياتهم وان خالفت سنن الحق ومبادئ العدالة، وأبدوا شكواهم من ما صنع بهم من إِسترداد الحلل والثياب.

ولما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بمكة اشتكوا علياً عليه السلام فقام رسول اللّه خطيباً في الناس وقال:"أيُّها الناس، لا تشكوا علياً، فوالله إِنه لأخشن في ذات اللّه (أو في سبيل) مِن أن يشكى"7.

مراسِم الحج تبدأ
انتهت أعمالُ العمرة، وكان النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله يكره أن ينزل ويمكثَ في دار أحد في المدة التي بين العمرة والحج ولهذا أمر بأن تُضرب له خيمة خارج مكة.

لقد حلَّ اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، فخرجَ زوّار بيت اللّه الحرام في ذلك اليوم من مكة إلى أرض عرفات ليقفوا في اليوم التاسع وهو يوم عرفة من ظهر ذلك اليوم وحتى الغروب منه.

وقد قَصَد النبي عرفات أيضاً في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة (الذي يُدعى يوم التروية أيضاً) من طريق منى، وتوقّف في "منى" إلى طلوع الشمس من اليوم التاسع ثم ركب بعيره، وتوجه نحو عرفات، ونزل في خيمة كانت قذ ضربت له في مكان يُدعى "نمره".

وقد ألقى في ذلك الاجتماع الهائل خطاباً تاريخياً هاماً وهو على ناقته.

خطابُ النبيّ التاريخي في حجة الوداع
.... في ذلك اليوم الذي كانت عرفات تشهد فيه اجتماعاً عظيماً وحَشداً بشرياً هائلاً، لم يشهد مثله شَعبُ الحجاز من قبل حتى ذلك اليوم، كان نداءُ التوحيد وشعار الاسلام يدوّي في ربوع تلك المنطقة التي كانت فيما مضى من الزمان موطن المشركين ومسكن الوثنيين ولكنها قد تحولت الآن إلى قاعدة الموحِّدين، وملتقى عباد اللّه المؤمنين.

في هذه المنطقة بالذات (أي أرض عرفات) نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وصلّى الظهر والعصر وهو يؤُمُّ مائة الف، ثم خطب فيهم خطابَهُ التاريخيّ وهو راكب على راحلته، وكان أحد اصحابه - وكان رفيع الصوت قويه - يكرر كلماته صلّى اللّه عليه وآله ليسمعه آخر من في ذلك الحشد.

لقد بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذلك الخطاب هكذا

"أيّها الناسُ اسمَعُوا قَولي واعقلوه فاني لا أدري لَعلِّي لا ألقاكُم بعدَ عامي هذا بهذا الموقف أبداً.أيُّها الناسُ إنَّ دماءكُم واموالكم8 عليكم حرام إلى أن تلَقوا ربَّكُم".

وتاكيداً لحرمة أموال المسلمين و دمائهم قال صلّى اللّه عليه وآله لربيعة بن اُمية:"قُل يا أيُّها الناسُ إن رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول: هَلاّ تدرون أيّ شهر هذا"؟

فاجابوا: الشهرُ الحرام الذي يحرم فيه القتال واراقة الدماء. فقال النبي صلّى اللّه عليه وآله لربيعة:"قُل لَهُم: إن اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تَلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا".

ثم قال صلّى اللّه عليه وآله لربيعة:"قل: يا أيُّها الناسُ إن رسول اللّه يقول هل تدرون أيّ بَلد هذا؟"

فأجابوا جميعاً: البلدُ الحرام، الذي يحرُم فيه القتال والعدوان. فقال رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله لربيعة:."قل لَهُم: إن اللّه قد حَرَّم عليكُم دماءكم وأموالكم إلى أن تَلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذ".

ثم قال صلّى اللّه عليه وآله لربيعة:"قُل لهم: هل تَدرُون أي يوم هذا؟".

فأجابوا بأجمعهم: يوم الحج الاكبر.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لربيعة:"قُل لَهُم: إنّ اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربَّكم كحرمة يومكم هذا.

أيَّها الناس: إن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضعُ دم ابن ربيعة بن الحارث (وكان من أقرباء النبي)".

وهكذا ألغى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عادة الثارات الجاهلية المشؤومة وبدأ بأقربائه.

ثم قال صلّى اللّه عليه وآله:"إنّكُم ستَلقونَ ربَّكُم فيسالُكم عَن أعمالكم وَقَد بلّغتُ فَمَن كانت عندَه أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنَهُ عليها.أيّها الناسُ إنَّ كل رباً موضوع ولكن لكم رؤوسُ أموالكم لا تَظلِمُونَ ولا تُظلَمون وإنَّ ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كلُّه.أيها الناس إن الشيطان قد يئس مِن أن يُعبَد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطَع فيما سوى ذلك فقد رضيَ به ممّا تحقرون من أعمالِكُم (أو رضي منكُم بمحقَّرات الأعمال)، فاحذرُوه على دينكم.أيّها الناس إنَ النسيء9 زيادة في الكفر يُضلّ به الذين كَفَروا يُحلّونه عاماً ويحرِّمونَهُ عاماً ليواطِئُوا عِدَّة ما حرّم اللّه فَيحلّوا ما حرّم اللّه ويُحرّموا ما أحلَّ اللّه وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأَرض وإن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرُمُ ثلاثة متوالية (ذو القِعدة وذو الحجة وشهر المحرم ورجب".

أيّها الناس إن لكم على نسائكم حَقاً ولهنّ عليكم حقاً:


لكم عليهن أن لا يوطئن فُرشَكُم أحداً تكرهونه (أي لا تضيِّفن في بيوتكم من تكرهونه).

وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلنَ فان اللّه قد أذن لكم أن تهجُروهنَّ في المضاجع، وتضربُوهُنَّ ضرباً غير مبرَّح، فان انتهين فلَهُنَّ رزقُهُنَّ وكسوتُهنَ بالمعروف واستَوصُوا بالنساء خيراً فإنَّهنَ عندكم عَوان لا يملكن لأنفسهنَّ شيئاً، وإنكم انما أخذتموهُن بأمانة اللّه واستحللتم فروجَهُنَّ بكلمات اللّه فاعقلوا أيها الناسُ قولي فاني قد بلّغتُ وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبداً أمراً بَبِّناً كتاب اللّه وسنة نبيّهِ10.

أيها الناس اسمَعوا قولي واعقلوه تَعلَّمُن أنّ كل مسلم أخ للمسلم وإنَّ المسلمين إخوة فلا يحلُّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاهُ عن طِيب نفس منهُ فلا تظلُمُنَّ أنفسكُم ألا فَليبلّغ شاهُدكم غائبكم لا نبيّ بعدي ولا اُمّة بَعدكُم11.


وهنا قطعَ النبي صلّى اللّه عليه وآله خطابه، ورفع سبّابَتهُ نحو السماء (كعلامة على الشهادة) وهو ينكتها الى الناس وقال:

"اللَّهم اشهَد

اللّهم اشهَد

اللّهم اشهَد"12.


ولقد مكث رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في عرفات حتى غروب اليوم التاسع، وعندما اختفى قرصُ الشمس عن الاُفق، واظلمَّ الفضاء بعض الشيء ركبَ ناقته، وافاضَ إلى المزدلفة وامضى فيها شطراً من الليل ولم يزل واقفاً من الفجر إلى طلوع الشمس في المشعر، ثم توجَّه في اليوم العاشر إلى "منى" وأدّى مناسكها من رمي الجمار والذبح والتقصير ثم توجَّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.

وهكذا علّم رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله الناسَ مناسك الحج بصورة عملية، وحدّد أو أكّد على مشاعره بصورة دقيقة.

ويطلَقُ على هذه الحجة التاريخية في كتب التاريخ والحديث "حجة الوداع" تارة، و "حجة البلاغ" اُخرى، و"حجة الإسلام" ثالثة، وإنما يُطلق كلُّ عنوان من هذه العناوين على هذه الحجة لمناسبة لا تخفى على القارئ البصير13.

هذا ونلفتُ نظر القُرّاء الكرام في خاتمة هذا الفصل إلى اأن المشهور بين المحدثين هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ألقى هذا الخطاب التاريخي الخالد في يوم عرفة ولكن يذهبُ بعض المؤرّخين إلى أنّ هذه الخطبة اُلقيت في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، ويرى آخرون أن النبي صلّى اللّه عليه وآله خطب خطباً عديدة في هذه الحجة مستغلا كل فرصة سانحة لإبلاغ مبادئ رسالته الإلهية.

هذا وقد وقعت في أثناء هذه الرحلة المقدسة قضايا ووقائع لطيفة وجديرة بالدرس والتأمل والتملي، وقد تركنا ذكرها هنا رعاية للاختصار14.


1- السيرة الحلبية: ج 3 ص 389.
2- المراد من الاستلام هو مسح الحجر الاسود باليدين قبل الشروع بالطواف وفلسفة هذا العمل هي أن هذا الحجر كان يقف عليه ابراهيم لدى بناء جدران الكعبة واقامتها ورفعها، واستلامُه نوع من تجديد الميثاق مع الخليل عليه السَّلام والعمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل ابراهيم.
ولقد اعتمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الفترة المدنية مرتين، إحداهما في السنة السابعة والاُخرى في السنة الثامنة بعد فتح مكة، وكانت هذه ثالث عمرة يقوم بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مع الحج (الطبقات الكبرى: ج 2 ص 174).
3- الصفا والمروة جبلان على مقربة من المسجد الحرام والسعي هو المشي بينهما ابتداء من الصفا وانتهاء بالمروة.
4- هذه العبارة كناية عن مقاربة الازواج وغسل الجناية لان مقاربتهن هي أحد محرمات الحرام وترتفع هذه الحرمة بالتقصير وهو أخذ شيء من شعر الرأس أو اللحية أو تقليم الظفر.
5- بحار الأنوار: ج 21 ص 319، وهذه القصة توقفنا على تعنّت فريق من الصحابة وتمرّدهم على تعليمات النبي وأوامره الاكيدة وهم يعلمون أنه لا ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى وثمة شواهدُ وموارد اُخرى كثيرة على الموضوع، وقد جمعها المغفور له العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي في كتاب اسماه "النص والاجتهاد".
6- الارشاد: ص 92، ان هذا يدل على أن النية الاجمالية كافية ولا يلزم وقوف الناوي على تفاصيل العمل وجزئياته.
7- السيرة النبوية: ج 4 ص 603 وفي البحار: ج 21 ص 385: أمر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله منادياً أن ينادي في الناس:"ارفعوا ألسنتكم عن عليٍّ فانه خشن في ذات اللّه غير مداهن في دينه".
8- في الخصال: ج 2 ص 487 أيضاً: وأعراضكم.
9- شرحنا النسيء في ص 83 من هذا الكتاب فراجع.
10- لقد اوصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الاُمة في هذه الخطبة التاريخية بالكتاب والسنة،ولكنه أوصى في خطبة الغدير وفي اُخريات حياته بالكتاب والعترة، وحيث ان هذين الحديثين وردا في واقعتين فلا تنافي بينهما، لانه يصح ان يجعل النبي صلّى اللّه عليه وآله السنة عدلاً لكتاب في واقعة، ويوصي بالعترة والخلفاء من أهل بيته في موضع آخر ويؤكد على اتباعهم الذي هو أخذ بالسُنّة أيضاً.
وقد تصور بعض اعلام السنة كالشيخ محمود شلتوت في تفسيره ان النبي صلّى اللّه عليه وآله تحدث بمثل هذا الكلام في وقعة واحدة فقط، ولهذا جعل لفظ "عترة" في الهامش نسخة بدل في حين لا نحتاج الى مثل هذا التصحيح ابداً لانه لاتعارض بين النقلين أساساً ليعالج بهذه الطريقة.
11- الخصال: ص 487.
12- امتاع الاسماع: ج 1 ص 523 والطبقات الكبرى: ج 2 ص 184.
13- راجع امتاع الاسماع: ج 1 ص 510 هذا ولعلّ الوجه في تسمية هذه الحجة بالوداع لانها آخر حجة للنبي صلّى اللّه عليه وآله وبالبلاغ هو نزول قوله تعالى "يا ايها الرسول بلغ ما اُنزل اليك من ربك" في أعقابها وبالتمام والكمال هو نزول قوله تعالى: "اليوم اكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي".
14- راجع بحار الأنوار: ج 1 ص 378 - 413، امتاع الاسماع: ج 1 ص 510 - 534.

2015-12-01