يتم التحميل...

موانع الجهاد في سبيل الله - الجبن والخوف من الموت

التربية الجهادية

من الرذائل الأخلاقية التي قد يُبتلى بها الإنسان صفة الجبن، وهو الخوف غير المنطقي. وهو يقابل الشجاعة والجرأة الّتي تُعد مفتاحاً للنصر والفلاح في حركة الإنسان الاجتماعية، وعنصر العزّة والعظمة للمجتمع البشري سواءً في ميدان الحرب والجهاد أو في ميدان السياسة والاجتماع،

عدد الزوار: 124

الجبن:

1- حقيقة الجبن:


من الرذائل الأخلاقية التي قد يُبتلى بها الإنسان صفة الجبن، وهو الخوف غير المنطقي. وهو يقابل الشجاعة والجرأة الّتي تُعد مفتاحاً للنصر والفلاح في حركة الإنسان الاجتماعية، وعنصر العزّة والعظمة للمجتمع البشري سواءً في ميدان الحرب والجهاد أو في ميدان السياسة والاجتماع، وحتّى في الميادين العلمية. ففي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً"1.

وهي صفة تورث الإنسان المذلّة والمهانة وسوء العيش، وتحطّ من منزلة صاحبها، وتؤدّي إلى هدر طاقاته، وتفضي إلى أن يتسلّط عدوّه عليه. والمجتمع الذي يتّصف أفراده بالجبن يكون مجتمعاً خنوعاً ذليلاً خاضعاً لسياسة الظالمين غير قادرٍ على مواجهة التحديات الكبرى وتقديم الحلول الناجعة، ولا يُرجى له الرقيّ والتكامل في كافة مجالات الحياة، ويكون بعيداً عن تحقيق الأهداف الإلهية الكبرى من قبيل بسط الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

وهذا ما سجّلته صفحات التاريخ الإسلامي في الفترة الأخيرة التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والفتنة الصخياء التي حلّت بالأمة آنذاك، حيث جبن البعض ولم يلتزم بالوصايا الصريحة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحفظ أهل بيته عليهم السلام، فلم يلتزم بمبايعة خليفته أمير المؤمنين عليه السلام وأبنائه المعصومين عليهم السلام المنصوص عليهم بالإسم، بل وعمد إلى التآمر عليهم من خلال محاربتهم والتَّنكيل بهم وبأصحابهم بهدف القضاء الماديّ والمعنوي عليهم.

والمراد بالجبن هنا هو الخوف غير المنطقي من المواقف أو المظاهر التي لا تستبطن خطراً حقيقياً، بل يتصوّرها الإنسان الجبان ويتوهّم أنها أمور خطيرة، مع أنها ليست كذلك. وهذا بخلاف الخوف من الأمور التي تتضمن خطراً واقعياً على حياة الإنسان أو أنها يمكن أن تسبّب الضرر والأذى له، فإن الاندفاع نحو هذا النوع من المخاطر دون تفكيرٍ ورويّة يوقع الإنسان في مفسدة أخرى لا تقلّ خطراً عن الجبن وهي التهوّر، وهو القائل في كتابه العزيز: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إلى التَّهْلُكَة2.

2- دوافع الجبن:

سوء الظنّ بالله: لأن الشخص الذي يعيش الإيمان بالله والثقة به وينطلق في حياته من موقع التوكّل على الله والتصديق بوعده، لن يذوق طعم الذلّة والمهانة والضعف، ولن يتردّد أو يخاف أمام الحوادث الصعبة، ولن يتزلزل أمام التحدّيات، ولن يهاب أحداً من الأعداء لأنه يرى أن قدراتهم محدودة ولا تعادل شيئاً أمام قدرة الله المطلقة. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظن بالله"3.

ضعف الإيمان واليقين: من أهم خصائص الإنسان الجبان ضعف نفسه وعجزها عن مواجهة الصعاب والتحدّيات المختلفة، لذا نراه يلجأ دائماً إلى التذرّع بالأعذار الواهية هرباً من المسؤوليات أو الواجبات المطلوبة منه، والمنشأ الرئيسي لهذا العجز هو ضعف الإيمان بالله تعالى. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شدّة الجبن من عجز النفس وضعف اليقين"4. فالجبن لا ينسجم مع روح الإيمان، لأنّ المؤمن يتوكّل في جميع أموره على الله تعالى، ومن كان يملك مثل هذا الأساس المتين في حركة الحياة لا يمكن أن يكون للجبن طريق إلى قلبه لأنّه يعيش الأمل برحمة الله وفضله فلا يتعلّق قلبه بكل ما سوى الله تعالى. وبالعودة مجدداً إلى حديث الإمام الباقر عليه السلام: "لا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً"5، نستنتج منه أيضاً أن الجبن لا يجتمع مع الإيمان.

الخوف من قوّة العدوّ: إن قوّة العدوّ المادية وعديده وعدّته وحجم الخسائر في صفوف المسلمين، كلّها عوامل ومؤثّرات قد تقود أحياناً إلى الرهبة والخوف التي قد يتبعها الهزيمة والفشل لا سمح الله. وهذا ما يحاول العدو تحقيقه والوصول إليه في دعايته الإعلامية وحربه النفسية. ونحن لو رجعنا إلى عديد جيش الإسلام الأول في معاركه، فسنجد أن التوازن العددي مفقود: ففي معركة بدر كان عدد جيش المسلمين 313 رجلاً مقابل 950 مشرك على سبيل المثال، ولكن الأمر كان ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا6. وفي معركة الخندق كان المشركون على بعض التقديرات أكثر من عشرة آلاف مقاتل، والمسلمين لم يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف7. لكن المسلمون الأوائل لم يهابوا كثرة الأعداء ولم يخشوا قوّتهم على الإطلاق، بل زادهم الأمر بأساً وتوكّلاً على الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ8. وقال الله تعالى مخاطباً نبيه موسى عندما أمره بالذهاب إلى لمواجهته: ﴿يا مُوسى‏ لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ9.

الجهل وقلّة المعرفة: حيث غالباً ما يسبّب للإنسان الخوف الموهوم، كما يلاحظ في حالة خوف الإنسان من الموارد التي لا يعرفها جيداً. أما عندما تتّضح له الصورة جيداً فإن حالة الخوف ستذهب من نفسه تدريجياً.

طلب الراحة والعافية: وهو أحد الأسباب التي تكون منشأً للخوف غير المبرر، لأن خوض أي معتركٍ يتطلّب من الإنسان أن يُقحم نفسه في دوامة من المشاكل والصعاب، مما يعني أن يتخلّى عن حظوظه من الراحة.

الآثار الناجمة عن خوض تجارب مؤلمة: فالحوادث المرّة غالباً ما تترك في نفس الإنسان حالةً من الخوف والرعب لأنها تترسّخ في ذهنه وتحول دون إقدامه على خوض تجارب جديدة.

الإفراط في توخّي الحذر: إن الإفراط في سلوك طريق الحذر من شأنه أن يورث الخوف أيضاً لأنه يدفع بالإنسان إلى توقّي كل ما يحتمل فيه الخطر، فيعيش التردّد والخوف من الإقدام دائماً.

3- كيفيّة معالجة الجبن:

إن أحد الطرق لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية كما في سائر الرذائل الأخرى هي التفكّر في آثارها السلبية وعواقبها الوخيمة على صعيد الفرد والمجتمع. فعندما يتعرّف الإنسان على الآثار السلبية للخوف الموهوم وما يترتّب عليه من مذلّة وحقارة وتخلّف وحرمان، فإنه سيتحرّك حتماً لإزالة هذه الرذيلة من نفسه.

أما الطريق العملي لعلاج هذه الآفة فهو بالسعي إلى قطع كل دوافع وجذور هذه الرذيلة من النفس. فعندما تزول السحب المظلمة لسوء الظن بالله من سماء القلب، وتشرق شمس الإيمان والتوكل على الله في فضاء الروح الإنسانية، فإن ظلمات الخوف الموهوم ستزول بسرعة من النفس. ومن الطرق الأخرى المفيدة في العلاج أيضاً، أن يورّط الإنسان نفسه في الميادين المثيرة للخوف والوحشة، ويعمل على إقحام نفسه فيها مرات عديدة، ومع تكرار التجربة سيزول الخوف من النفس حتماً. ونجد هذا المعنى بصورة جميلة في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنّ شدّة توقّيه أعظم مما تخاف منه"10.


الخوف الموت:

1- حقيقة الموت:

ما هو الموت؟ وهل الموت يعني الفناء والعدم أم أنه تحول وانتقال من مكان إلى مكان ومن عالم إلى عالم آخر؟ هذا السؤال كان على الدوام ولا يزال يجول في خاطر جميع البشر، وكل إنسان من دون استثناء يودّ أن يحصل على الجواب الصحيح لهذه المسألة.

الموت في نظر القرآن الكريم ليس عدماً بل هو انتقال من حياة إلى حياة أخرى، ومن عالم إلى عالم آخر، هو انتقال من دنيا محدودة وفانية إلى عالم واسع خالد وغير محدود وخالد. يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في وصيته لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "واعلم يا بنيّ أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا"11. فالموت في واقعه مرحلة من السير التكاملي للإنسان نحو الآخرة والرجوع إلى الله عزّ وجل، كالجنين الذي يعيش مدّةً من الزمن في ظلمات الرحم ثم يخرج إلى الحياة لتبدأ رحلة جديدة من التكامل. وقد أجاب الإمام الجواد عليه السلام لمّا سئل عن حقيقة الموت بالقول: "هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلا أنه طويل مدّته، لا ينتبه منه إلا يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يُقادِر قدره ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره، فكيف حال فرح في النوم ووجل فيه؟! هذا هو الموت فاستعدّوا له"12.

وقال رجلٌ لجعفر بن محمّد عليه السلام: "يا أبا عبد الله إنّا خُلِقنا للْعَجَبِ، قال وما ذاك الله (لله‏) أنت، قال: خُلِقنا للفناء، فقال: مه يا ابن أخ خُلِقنا للبقاء وكيف تفنى جنَّة لا تبيد ونار لا تخمد، ولكن قل إنّما نتحوّل من دار إلى دار"13.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً في حقيقة الموت قال: "أيها النّاس وإنّا خُلِقنا وإيّاكم للبقاء لا للفناء ولكنكم من دار إلى دار تُنقلون فتزوّدوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه"14.

يقول إمامنا الخميني قدس سره: "وإذا كنتم في خدمة الإسلام وطاعة الله تبارك وتعالى فإنّ هذه الأنفس ستصبح أنفساً طاهرة وزكيّة وسعيدة، أينما كانت وعلى أيّة هيئة كانت. إنّ موت الإنسان -الإنسان الطاهر- هو بداية حياته الإنسانية، فهنا حياته الحيوانية وحياته المحدودة، أمّا تلك الحياة الإنسانية فهي غير محدودة وعالم غير محدود. ولو نزّهتم أنفسكم وطهّرتموها، ولو جعلتم أعمالكم منسجمة مع القرآن الكريم ومع أحكام الإسلام، وجعلتم أخلاقكم قرآنية، إذاً طهّرتم أنفسكم، فلا تخافوا شيئاً. إنّ الموت أمر يسير وليس بذي بال، فإنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه مولى الجميع حينما يقول: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه" فلأنّه فهم حقيقة الدنيا وحقيقة ما وراءها، وفهم حقيقة الموت وحقيقة الحياة"15.

2- الخوف من الموت وحب البقاء:

شكّل التخويف من الموت أحد أهم الحجج التي اعتمدها المنافقون والكافرون لمنع المؤمنين من التوجّه إلى الجهاد، حيث يقول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ16. إنّ هذا الكلام يزعزع الإيمان، ويُضعف المعنويات، ويزلزل روحيّة المسلمين، ولكنه في نهاية المطاف يعبِّرُ عن غريزةٍ وأساسيَّةٍ في الإنسان وجبلَّتِهِ، ألا وهي حُبُّ البقاء والخوفُ من الموت.

على الرغم من هذه الغريزة وحضورها القويّ في حياة الإنسان، إلا أنّ التربية الإسلامية أبت أن تجعلها حاكمة ومتسلّطة على تفكير الإنسان وأفعاله، فوضعت لها قواعد عامّة ومحكمة، وأخضعتها للتهذيب والتوجيه.

لقد بيّن الإسلام رؤيته الواقعية للموت، فالموت في نهاية الأمر واقعٌ لا محالة على كلّ إنسان كما يقول تعالى في القرآن الكريم ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْت17. وما من أحد بإمكانه أن يفرّ من الموت أو أن يحدّد أجله، بل هو أمر بيد الله وحده ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا18.

ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أيُّها الناس إنّ الموت لا يفوتُه المُقيم، ولا يُعجِزه الهارب، ليس من الموت محيد ولا محيص، من لم يُقتل مات، إنّ أفضل الموت القتل" وفي حديث آخر يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله كتبَ القتل على قومٍ والموت على آخرين... فطوبَى للمجاهدين في سبيلِه والمقتولين في طاعتِه"19.

والموت في الرؤية القرآنية والإسلامية ليس فناءً ولا إعداماً، إنّما هو حالة انتقال من دار إلى دار، من دنيا المحدودية والفناء إلى عالم الخلود والبقاء كما في الحديث عن الإمام علي عليه السلام حيث قال: "إنما الدّنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرِّكم"20. والإنسان لم يخلق إلا للخلود والبقاء كما ورد في وصية الإمام علي عليه السلام لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "واعلم أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا"21.

إنَّ كلَّ من يعرف حقيقة هذه الحياة الفانية والمتصرّمة ومفارقة روحه لجسده، ويؤمن بالحياة الخالدة في دار الآخرة، حيث ينتقل إليها روحاً وجسداً، فسوف تتبلور الرؤية أمامه وتتوضّح أكثر حقيقة هذه المرحلة الانتقالية المهمّة التي اسمها الموت، والتي هي بمثابة القنطرة التي سوف يعبر من خلالها إلى جنان الله الفسيحة والخالدة وستتبدّد مخاوفه ويسلّم أمره إلى الله ولا يكلّف إلا الصّبر، كما قال الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه قبل واقعة الطفّ: "صبراً بني الكرام فما الموت إلا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضّرّاء إلى الجنان الواسعة والنّعيم الدّائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إنّ أبي حدّثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاءِ إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم"22.

3- علّة الخوف من الموت:

علّة الخوف من الموت ترجع إلى ضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، والنظر إلى الموت على أنه فناء وإعدام للإنسان، مع أن الصحيح خلاف ذلك كما بيّنّا. ومن جهة ثانية سببه أيضاً أعمال الإنسان السّيئة في الدنيا وما احتطبه الإنسان على ظهره من الآثام والمعاصي والأعمال السيئة التي بطبيعة الحال سوف يخاف من نتائجها وعواقبها عند حلول الموت والحياة الآخرة. ففي الحديث عن الإمام الصادق قال: "أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ فقال: ما لي لا أحب الموت؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: ألك مال؟ قال: نعم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فقدّمته؟ قال: لا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فمن ثم لا تحبّ الموت!"23.

وجاء رجلٌ إلى الإمام الحسن عليه السلام فقال له: "يا ابن رسول الله ما لنا نكره الموت ولا نحبّه؟ قال عليه السلام: إنكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النُقلة من العمران إلى الخراب"24.

إننا لو فكّرنا قليلاً لماذا يكره معظم الناس الموت ينفرون منه لوجدنا أن السبب يكمن في نظرتهم للموت حيث يرون فيه خسارة وزوال النعم الدنيوية. فالإنسان الذي يرى أن سعادته وكماله يكمنان في الدنيا وكمالاتها، كيف سيرضى بتركها والانتقال عنها إلى عالم آخر لم يمهّد له من قبل؟! فالذي كان محور همّه وتعلّق قلبه بالنساء والأولاد والمال والجاه وغيرها من ملذّات الدنيا الفانية وشهواتها البالية كيف يمكنه أن يستغني عن مصدر سعادته هذه ويستأنس بالموت؟! في الحقيقة لو رجع أولئك الذين يفرّون من الموت إلى أنفسهم وسألوها عن السبب الحقيقي والخفيّ لنفورهم من الموت لأدركوا حتماً أن علّة هذا الأمر هو تعلّق قلوبهم بالدنيا وانعقاد آمالهم على لذائذها فكانت النتيجة أن غفلوا عن الآخرة والسعي الصالح لها ﴿إِنَّ الَّذينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ25.

إن من كانت همّته للدنيا ومن أجل تحصيل كمالاتها ومناصبها وجاهها وسمعتها لن يتعدّى أقصى طيرانه نيل هذه الملذّات الفانية والمشوبة بالمنغّصات حتماً. ومن كانت همّته لله وفي سبيل الله رأى الدنيا قفصاً ضيّقاً يمنعه من التحليق إلى كماله الحقيقي فيسعى للتحرّر منه والفرار من أسره كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر"26.

وحدهم أولئك الذين أدركوا أنّ "الدنيا ساعة"27، وأنها "مزرعة الآخرة"28 والذين لا يرضون بالسعادة المحدودة عن المطلقة بدلاً، هم الذين يجعلون دنياهم سفراً دائماً نحو محبوبهم حيث الكمال الحقيقي والسعادة الحقيقية والراحة الأبدية.

4- كيفيّة الخلاص من هذا الخوف:

أما كيفيّة التخلّص من الخوف من الموت فعبر خطوات أولاها تكمن في إدراك حقيقة الموت كما تقدّم، لأنه يقلّل إلى حدٍّ كبير عامل الخوف منه. والخطوة الثانية بعد معرفة حقيقة الموت هي بالاستعداد كما في الحديث "هذا هو الموت فاستعدّوا له"29. والاستعداد للموت يكون من خلال الإيمان والاعتقاد الصحيح بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي لا يبتغي منه المرء إلا وجه الله تعالى والتقرّب إليه، كذلك وتذكّر الموت دائماً والاتّعاظ به وبمجرياته.

وفي رواية أخرى عن الإمام الجواد عليه السلام قال: "والذي بعث محمداً بالحقّ نبياً إن من استعدّ للموت حق الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا العلاج، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدي إليه الموت من النّعم لاستعدوه وأحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات"30.

وعن كيفيّة الاستعداد للموت يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول أكثروا ذكر الموت فإنّه هادم اللذّات، حائل بينكم وبين الشّهوات"31.

وعنه عليه السلام: "إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل النّدى والخير"32.

وفي رواية أخرى، قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: "ما الاستعداد للموت؟ قال عليه السلام أداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال على المكارم ثمّ لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، والله ما يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه"33.


المفاهيم الرئيسية

1- الجبن هو الخوف غير المنطقي وهو يقابل الشجاعة والجرأة.

2- صفة الجبن لا تنسجم مع الإيمان القوي والراسخ بالله، وهو يورث الإنسان المذلّة والهوان.

3- للجبن دوافع عديدة أهمّها: ضعف الإيمان والنفس، الخوف من قوّة العدوّ، الجهل والاعتقادات الخاطئة، حبّ الراحة، الحوادث السلبية والتجارب الحياتية المؤلمة، الإفراط في توخّي الحذر.

4- للجبن علاجان، الأول علمي عبر التفكّر في الآثار السلبية له، وعلاج عمليّ يكمن بقطع كل دوافع وجذور هذه الرذيلة من النفس من خلال إقحامها في المواقف الخطيرة حتى تتعود.

5- بيّن الإسلام رؤيته الواقعية للموت إذ هو في نهاية الأمر واقعٌ لا محالة على كل إنسان، يقول تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْت.

6- لا يمكن لأحد أن يفرّ من الموت أو أن يحدّد كيفيّته، بل هو أمر بيد الله وحده ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا.

7- الموت في الرؤية القرآنية والإسلامية ليس فناء ولا إعداماً، بل هو حالة انتقال من دار إلى دار، من دنيا المحدودية والفناء إلى عالم الخلود والبقاء.

8- إن علّة الخوف من الموت تكون من جهة ضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، والنظر إلى الموت على أنه فناء وإعدام للإنسان، مع أن الصحيح خلاف ذلك.

9- كيفية التخلّص من الخوف من الموت تكمن في إدراك حقيقة الموت، لأنه يقلّل إلى حدٍّ كبير عامل الخوف منه، كما في الحديث عن الأمير عليه السلام "إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل النّدى والخير".

* كتاب التربية الجهادية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- بحار الانوار، ج72،ص301.
2- البقرة،195
3- بحار الأنوار،ج33،ص602.
4- غرر الحكم،ص263.
5- بحار الأنوار، ج72،ص301.
6- الأنفال، 65.
7- بحار الأنوار، ج20، ص228.
8- آل عمران، 173.
9- النمل،10.
10- بحار الأنوار،68،ص362.
11- نهج البلاغة،خ21.
12- بحار الأنوار،ج6،ص155.
13- بحار الأنوار،ج5،ص313.
14- بحار الأنوار،ج68،ص264.
15- صحيفة الإمام، ج6، ص248.
16- آل عمران، 156.
17- الأنبياء, 35.
18- الأحزاب، 16.
19- بحار الأنوار، ج32، ص203.
20- ميزان الحكمة، ج1، ص33.
21- نهج البلاغة، خطبة 21.
22- بحار الأنوار، ج6، ص 154.
23- بحار الأنوار، ج6، ص127.
24- بحار الأنوار، ج6، ص129.
25- يونس،7.
26- بحار الأنوار،ج44،ص297.
27- بحار الأنوار،ج1،ص151.
28- عوالي‏ اللآلي،ج1،ص267.
29- بحار الأنوار، ج6، ص155.
30- م،ن.
31- بحارالأنوار، ج68، ص264
32- وسائل الشيعة، ج9، ص409.
33- مستدرك الوسائل، ج2، ص100.
 

2015-10-03