يتم التحميل...

هل الأئمّة عليه السلام واسطة في الفيض ؟

الإمامة والخلافة

يراد من الفيض العطاء الإلهيّ، فمعنى كونهم واسطة فيه، أي أنّ هذا العطاء يمرّ عبرهم وبوساطتهم، وقد طرح هذا الأمر في معنيين للواسطة هما:

عدد الزوار: 248

معنى الواسطة في الفيض

يراد من الفيض العطاء الإلهيّ، فمعنى كونهم واسطة فيه، أي أنّ هذا العطاء يمرّ عبرهم وبوساطتهم، وقد طرح هذا الأمر في معنيين للواسطة هما:

المعنى الأوّل: أنّهم واسطة في خلق العالم، اعتمادًا على روايات عديدة تتحدّث عن عالم الأنوار الذي هو قبل هذا العالم المادّي، وأنّ الله تعالى قد خلق في ذلك العالم أنوار محمّد وأهل بيته عليه السلام، ثمّ بوساطتهم خلق عالم المادّة، ومن هذه الروايات:

1- "إعلم أنّ الله تعالى خلقني وخلق عليًّا من نور عظمته، قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، إذ لا تقديس ولا تسبيح، ففتق نوري، فخلق منه السماوات والأرض، وأنا والله أجلّ من السماوات والأرض، وفتق نور عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فخلق منه العرش والكرسيّ، وعليّ بن أبي طالب أفضل من العرش والكرسيّ، وفتق نور الحسن، فخلق منه اللوح والقلم، والحسن أفضل من اللوح والقلم، وفتق نور الحسين، فخلق منه الجنان والحور العين، والحسين والله أجلّ من الجنان والحور العين، ثمّ أظلمت المشارق والمغارب، فشكت الملائكة إلى الله تعالى أن يكشف عنهم تلك الظلمة، فتكلّم الله جلّ جلاله بكلمة، فخلق منها روحًا، ثمّ تكلّم بكلمة، فخلق من تلك الروح نورًا، فأضاف النور إلى تلك الروح، وأقامها أمام العرش، فزهرت المشارق والمغارب، فهي فاطمة الزهراء عليه السلام، ولذلك سمّيت الزهراء، لأنّ نورها زهرت به السماوات"1.

2- في كتاب سليم بن قيس عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عليّ، خلقت أنا وأنت من عمودين من نور معلّقين من تحت العرش، يقدّسان الملك قبل أن يخلق الخلق بألفي عام..."2.

3- ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ الله تبارك وتعالى أحدٌ واحد، تفرّد في وحدانيّته، ثمّ تكلّم بكلمة، فصارت نورًا، ثمّ خلق من ذلك النور محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم، وخلقني وذريّتي، ثمّ تكلّم بكلمة، فصارت روحًا، فأسكنه الله في ذلك النور، وأسكنه في أبداننا فنحن روح الله وكلماته، فبنا احتجّ على خلقه، فما زلنا في ظلّة خضراء، حيث لا شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، ولا عين تطرف، نعبده ونقدّسه ونسبّحه، وذلك قبل أن يخلق الخلق"3.

4- ما روي عن سلمان الفارسيّ (المحمّديّ) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "...ألا وإنّي وأهل بيتي كنّا نورًا نسعى بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فكان ذلك النور إذا سبّح سبّحت الملائكة لتسبيحه..."4.

من الواضح أنّ هذه الروايات تُجمِع على وجود عالم الأنوار قبل العالم الماديّ، وأنّ محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى الحقيقة، لا بالمعنى البشريّ، وُجد قبل خلق آدم عليه السلام، مع عليّ عليه السلام الحقيقة النورانيّة أيضًا، وكنّا مع الأئمّة من ذريّته، ومنهم السيّدة الزهراء عليه السلام كما مرّ في الروايات التي صرَّح بعضها أنّ العالم الماديّ خُلق من تلك الحقائق النورانيّة، وهذا معنى كونهم وسائطه في الفيض بالمعنى الأوّل.

الواسطة في الفيض ليست فكرة دينيّة فقط

لم تكن تلك الروايات هي المنطلق الوحيد للحديث عن الواسطة في الفيض بالمعنى الأوّل، بغضّ النظر عن تسمية الواسطة، فهذه المسألة طُرحت في الفكر الفلسفيّ قبل الإسلام، فالمنسوب إلى أفلوطين، الذي عاش في القرن الثالث الميلاديّ، أنّ أول ما ينبعث عن الله تعالى هو العقل الذي هو أقلّ كمالاً من الله تعالى، وهو فيض عنه، وانعكاس لنوره، ومنه يصدر العقل الثاني الذي هو انعكاس لنور العقل الأوّل، وهو النفس الكليّة التي تقف على تخوم العالم المعقول، قريبة من العالم المحسوس، ومن هذه النفس الكليّة تفيض الفيوضات الكثيرة5.

وقد أيّد جملة من فلاسفة المسلمين أصل فكرة الواسطة في الفيض، فبيَّن المشّاؤون6 منهم أول ما ينبعث عن الله تعالى هو العقل الأوّل الواحد بالعدد، ثمّ يصدر العقل الثاني، وهكذا إلى عشرة عقول، هو العقل الفعّال من خلال عاشرها يوجد عالم الطبيعة7.

وكذلك أعلن السهروردي إيمانه بفكرة الواسطة في الفيض، وأنّ المخلوق الأوّل هو نور واحد، وهو منتهى جميع الكمالات8.

وينطلق بعض الفلاسفة في اعتقاده بالواسطة في الفيض من أمر دقيق نقاربه بالتوضيح الآتي: إنَّ العالم المادّي الكثير لا يتحمّل كونه الخلق الأوّل من الله تعالى الكامل المطلق، وإنّ حاله حال ما لو أردنا أن نضيء مصباحًا كهربائيًّا صغيرًا بوصله بسلك التوتر العاليّ مباشرة، فإنّ المصباح لا يتحمّل تلك الطاقة، وهكذا حال العالم الماديّ فإنّه لا يتحمّل لضعفه أن يكون هو الخلق الأوّل، لذا لا بدّ أن يكون هناك توسّط لخلقه، وما يتوسّط يسمّى بالواسطة في الفيض.

إذًا إنّ المعتقد بالواسطة في الفيض كان موجودًا في الفكر الفلسفيّ كنظريّة عامّة بغضّ النظر عن تطبيقاتها، وجاءت الروايات لتؤكّد تلك الفكرة بحكايتها عن وقوع تلك الواسطة متمثّلة بالنور الأوّل الذي أطلق عليه بالحقيقة المحمّديّة، التي تعتبر في فكر العديد من فلاسفة الإسلام تمثّل الواسطة في فيض وخلق هذا العالم.

المعنى الثاني: إنّ النبيّ والأئمّة عليه السلام هم واسطة الله تعالى في إفاضة مستمرة دائمة على هذا المعنى، وبعبارة أخرى إنّ الله تعالى جعل للعالم نظامًا قائمًا على إدارة الإنسان الكامل له.

مسلَّمات قبل الإجابة

قبل الدخول في إثبات أو نفي هذا المعنى نشير إلى أمرين:

الأوّل: ممّا لا شكّ فيه، كما تقدّم، أنّ القول بكون أيّ أحد غير الله تعالى له إدارة مستقلّة عن الله تعالى فهذا غلوٌ في العقيدة، وقائله مغالٍ ملعون.

الثاني: إنّ العقل لا يمنع من التوسّط غير المستقلّ عن الله تعالى في إطار الربوبيّة الإلهيّة، كمثال توسيط الله تعالى بعض ملائكته تدبير الأمور، قال تعالى: ﴿ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرً9، وقال تعالى: ﴿ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا 10، ومثال توسيط ملك الموت بقبض الأرواح، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ 11، وجبرئيل بالوحي، قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 12.

الثالث: لا يصحّ، كما تقدّم سابقًا، إنكار الفكرة والاعتقاد ببطلانها، لمجرّد استبعاد ذلك، فهذا ما نهجت عنه بعض الروايات، كالرواية المتقدّمة عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن أحبَّ أصحابي إليَّ أورعهم، وأفقههم، وأكتمهم لحديثنا، وإنّ أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا، ويروى عنّا، فلم يقبله اشمأزّ منه، وجحده وكفر من دان به، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند، فيكون بذلك خارجًا عن ولايتنا"13.

الإجابة

بناءً على ما تقدّم، فالنقاش في الواسطة في الفيض بالمعنى الثاني منحصر بكون الإنسان الكامل كالنبيّ والأئمّة هو واسطة غير مستقلّة يوسّطها الله تعالى في إفاضته على العالم، وبما أنّ هذه الفكرة ممكنة عقلاً كما تقدّم، فإنّه لا مجال للاعتقاد بقبولها أو لرفضها إلاّ من خلال القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.

وفي مقام الجواب نقول:

1- إنّ نفي الفكرة بالأدلّة اللفظيّة فيه صعوبة كبيرة من جهة أنّ الأدلّة التي تحصر إدارة الكون بالله يمكن أن تحمل على الاستقلاليّة، بمعنى أنّه تعالى وحده، وبشكل مستقلّ يفيض على هذا الكون، وهذا لا يتنافى مع كون غيره هو واسطة في تلك الإفاضة.
فقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ14، يمكن حمله على أنّه كذلك استقلالاً، فيصحّ معنى أنّه تعالى إذا أراد أن يميت إنسانًا يوسّط ملك الموت بالتبع، لا بالاستقلال كما تقدّم، وهكذا الحال في غير هذه الآية كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ 15، فهذه الآية، وإن كانت تؤكّد أنّ الذي يمسك السموات والأرض هو الله تعالى، وإن أمسكهما أحد من بعده فهما إلى زوال، إلاّ أنّها لا تتنافى مع توسيط الله تعالى ملائكة أو أحدًا آخر لذلك الإمساك بالتبع، لا بالأصالة، وهكذا الحال في قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ16، فإنّها لا تتنافى مع توسيط الله تعالى لِمَلك، أو أحد آخر في إفاضة الرزق بشكل غير مستقلّ، إنّما بتبع إرادة الله تعالى.
أمّا فيما يخصّ الروايات التي قد يفهم منها نفي التوسّط، فإنّه يمكن أن يحمل على التفويض أي على الاستقلاليّة، وهو أمر باطل، وغلوٌّ واضح كما تقدّم، كما في الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام: "من زعم أنّ إلينا الخلق، وعلينا الرزق، فنحن براء منه، كبراءة عيسى بن مريم من النصارى"17. فإنّ هذه الرواية يمكن حملها على كون المقصود التفويض استقلالاً.

2- لا يوجد في القرآن الكريم ما يدلّ على كون النبيّ والأئمّة عليه السلام واسطة في الفيض.

3- يوجد بعض الروايات التي قد يفهم منها كون النبيّ والأئمّة واسطة في الفيض بالمعنى المتقدِّم منها:

* ما ورد في الزيارة الجامعة الواردة عن الإمام عليّ الهادي عليه السلام: "بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبكم ينفس الهم ويكشف الضرّ، وعندكم ما نزلت به رسله، وهبطت به ملائكته، وإلى جدّكم بعث الروح الأمين"18.

* ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تعليمه كيفيّة زيارة الإمام الحسين عليه السلام: "بكم يختم الله، وبكم يمحو ما يشاء، وبكم يثبت، وبكم يفكّ الذلّ من رقابنا، وبكم يدرك الله ترة كلّ مؤمن يطلب بها، وبكم تنبت الأرض أشجارها، وبكم تخرج الأشجار أثمارها، وبكم تنزل السماء قطرها ورزقها، بكم يكشف الله الكرب، وبكم ينزل الله الغيث، وبكم تسيخ الأرض التي تحمل أبدانكم وتستقرّ جبالها عن مراسيها إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم"19.

* ما رواه أسود بن سعيد، قال كنت عند أبي جعفر، أي الإمام الباقر عليه السلام، فأنشأ ابتداءً من غير أن أسأله: "نحن حجّة الله، ونحن باب الله، ونحن لسان الله، ونحن وجه الله، ونحن عين الله في خلقه، ونحن ولاة أمر الله في عباده"20.

* ما رواه مروان بن صباح قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "إنّ الله خلقنا، فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده، بالرأفة والرحمة ووجهه الذي يؤتى منه وبابه الذي يدلّ عليه، وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء، وينبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبد الله، ولولا نحن ما عبد الله"21.

لقد حمل العديد من العلماء هذه الروايات ونحوها على كون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام واسطة في فيوضات الله تعالى على الكون والناس، في حين فسَّرها بعضهم بكون تلك الفيوضات تحصل ببركتهم، وذلك لمقام قربهم من الله تعالى.
ونحن لسنا بصدد المناقشة التفصيليّة لمدلول هذه الروايات، إنّما نريد أن نؤكِّد على فكرة أساسيّة، هي أن نتعاطى بروح علميّة منفتحة على هذا النحو من الأفكار، فالروايات السابقة لا تشكِّل دليلاً قطعيًّا على كون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام واسطة في الفيض، إنّما تبقى ذلك في مقام الاعتقادات الظنّية، كما لا يشكِّل ما مرّ سابقًا من بعض الآيات والروايات دليلاً علميًّا مقبولاً على رفض فكرة الواسطة في الفيض.

وعليه فمن غير المقبول منهجيًّا إنكار هذه الفضائل والكرامات للأئمّة عليه السلام، مع كامل التقدير لمن يحمل هذه الروايات على معنى آخر غير الواسطة في الفيض دون إنكارٍ لأصل الفكرة.

* يسألونك عن الأئمة، الشيخ أكرم بركات.


1- القميّ، شاذان، الفضائل، (لا،ط)، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1381هـ، ص129. المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج40، ص44.
2- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج22، ص 148.
3- المصدر السابق، ج53، ص46.
4- المصدر السابق، ج22، ص148.
5- أنظر: زيادة، معن، موسوعة الفلسفة العربيّة، (لا،ط)، (لا،م)، معهد الإنماء العربيّ، (لا،ت)، ج2، ص 1057.
6- سُمِّي أتباع أرسطو بالمشّائين، إمّا لأنّ أرسطو كان يدرِّس وهو ماشٍ، أو لأنّهم مشَوا بالاستدلال ابتداءً من العقل، ومن المشّائين المسلمين الفارابي وابن سينا.
7- الطباطبائيّ، محمّد حسين، نهاية الحكمة، ط14، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1417هـ، ص 382.
8- انظر: زيادة، معن، موسوعة الفلسفة العربيّة، ج2، ص1059.
9- سورة النازعات، الآية 5.
10- سورة الذاريات، الآية 4.
11- سورة السجدة، الآية 11.
12- سورة الشعراء، الآية 193.
13- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ط4، طهران، دار الكتب، 1365هـ.ش، ج2، ص 223.
14- سورة يس، الآية 82.
15- سورة فاطر، الآية 41.
16- سورة الزمر، الآية 52.
17- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص 343.
18- الصدوق، محمّد، من لا يحضره الفقيه، ط2، قم، مؤسسة النشر، (لا،ت)، ج2، ص 615. الطوسيّ، محمّد، تهذيب الأحكام، تحقيق حسن الموسوي الخرسان، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1364هـ.ش، ج6، ص 99.
19- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج4، ص 576-577.
20- المصدر السابق، ج1، ص 145.
21- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج1، ص 144.

2013-09-01