يتم التحميل...

اتجاهات في السير والسلوك

السير والسلوك

اتّفق المسلمون على أهمّيّة تزكية النفس ومكانتها وأنّها تحقق السير الصحيح في سبيل الله وسلوك صراطه سبحانه وتعالى، إلّا أنّهم اختلفوا في كيفيّة هذه التزكية ..

عدد الزوار: 20

اتّفق المسلمون على أهمّيّة تزكية النفس ومكانتها وأنّها تحقق السير الصحيح في سبيل الله وسلوك صراطه سبحانه وتعالى، إلّا أنّهم اختلفوا في كيفيّة هذه التزكية التي تُوصِل إلى الغاية المنشودة. والاختلاف بينهم لم يقتصر على الناحية النظريّة بل تعدّاها إلى الجانب العمليّ، ممّا أظهر اتجاهات عمليّة متعدّدة في كيفية تزكية النفس، والسير إلى الله تعالى.

ونعرض هنا، بعض هذه الاتّجاهات:
1 ـ طريق التزكية = إرهاق الجسد
فقد اعتقد بعض الناس أنّ السير والسلوك يتحقّق عبر إرهاق الجسد، بل تعذيبه بالمجاهَدات والرّياضات، وذلك لإضعاف سطوته، والحطّ من سلطانه. وهذا الاتّجاه فيما يبدو كان موجوداً في الأمم السابقة على الإسلام، وإن كان قد أخذ شكلاً خاصّاً في كلّ أُمَّة.

وقد ظهر هذا الاتّجاه في المجتمع الإسلاميّ في أشكال متعدّدة، وظهر اسم "الصوفيّة" لإحدى الفرق التي كان يلبس أتباعها الصوف والملبس الخشن حتّى في حرِّ الصيف، مجتنبين لبس الناعم من الثياب زهداً وإعراضاً عن الدنيا.
وتنقل في هذا الاتّجاه قصص غريبة عجيبة، فقد نُقِل عن أحد الشيوخ الذين كانوا يريدون تطويع أنفسهم على القيام في اللّيل دون كسل أنّه ألزم نفسه القيام على رأسه طول اللّيل.

2 ـ طريق التزكية = السقوط من أعين الناس

فقد اتجهت بعض الفرق المنسوبة إلى الصوفيّة إلى أنّ طريق التزكية هي السقوط من أعين الناس، والهدف هو السلامة من آفات الجاه والرّياء، فاتجه هؤلاء إلى تحقير أنفسهم وشرفهم أمام المجتمع ولو بارتكاب كبائر الذنوب لأجل أنّ يحقّقوا هدفهم.

ومن عجيب ما نُقل من قصص هؤلاء ما حكاه أبو حامد الغزالي عن ابن الكريني أنّه قال:  "نزلت في محلّة فعُرِفتُ فيه بالصّلاح، فدخلت في الحمّام، وغيّبتُ عليَّ ثياباً فاخرة، فسرقتها ولبستها، ثمّ لبست مرقعتي فوقها، فخرجت أمشي قليلاً قليلاً، فلحقوني فنزعوا مرقعتي، وأخذوا الثياب، وصفعوني، فصرت بعد ذلك أُعْرَفُ بلصِّ الحمّام، فسكنَتْ نفسي"!!!
قال أبو حامد:  فهكذا كانوا يروِّضون أنفسهم حتّى يخلّصهم الله من النظر إلى الخلق، ثمّ من النظر إلى النفس وأرباب الأحوال.ومن قصص هؤلاء أنّ بعضهم كان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس، ليعوِّد نفسَه الحِلْم.

3 ـ طريق التزكية = العزلة

فقد اعتقد بعض الناس أنّ تزكية النفس بحاجة إلى الاختلاء والعزلة والابتعاد عن وضع المجتمع، فبالعزلة يبتعد الإنسان عن الدنيا ونعيمها وزخرفها لينصرف إلى عبادة الله، وقد بنى أصحاب هذا الاتّجاه الصوامع في أمكنة بعيدة عن النساء ليتعبدوا فيها.

4 ـ طريق التزكية = أذكار لسانيّة

فقد اعتبر بعضهم أنّ تزكية النفس تتحقّق من خلال أوراد وأذكار لسانيّة يكرِّرها السالك، ولا يسمح بالشروع فيها من دون إذاً أستاذ خاصّ؛ لأنّ ذلك كحكم الأدوية، أحدها مضرّ، وآخر نافع.

سؤال مُلِحّ:
إنّ ما تقدّم وهو بعض الاتّجاهات الكثيرة في السير والسلوك- يشكّل منشأً لسؤال ينطلق من الناظر إليها وهو يريد بصدق أنّ يزكي نفسه ويسير في طريق كماله.

فأيَّ طريق يسلك؟
أيعتمد على إرهاق جسده؟ أم يعمل ما يُسقط به من أعين الناس؟ أم يعتزل المجتمع؟ أم يتّجه نحو الأذكار؟ أم يتّخذ طريقاً آخر من طرقٍ تعدَّدت وتنوّعت وتباينت فيما بينها؟
هل هذه الطرق كلّها صحيحة؟ أم كلّها باطلة؟ أو بعضها صحيح، والآخر باطل؟
ترى من يجيب عن هذا السؤال؟!

أيُعقل أنّ الله تعالى الحكيم لم ينصب لنا ميزاناً ومعياراً ومرجعاً لنحدّد فيها الطريق الصحيح الذي به يتحقّق هدف وجودنا دون الطرق الباطلة؟ كلّا، وحاشا لله أنّ يترك الناس بدون ذلك الميزان.
وكيف يتركهم بدونه ونحن ـ العقلاء ـ نجزم ونقطع بعيب الدعوة التي يدعوك فيها إنسان إلى منزله، لكنّه لا يُرشدك إلى عنوانه لا بكلام، ولا بخريطة، ولا بمرشد ونحو ذلك؟

إذاً ما هو هذا الميزان الذي من خلاله نعرف الطريق الصحيح من الطريق الباطل، لتزكية أنفسنا ولسيرنا في سبيل الله ولتحقيق كمالنا الإنسانيّ؟

الميزان = القرآن

الجواب في عنوانه الأوّل واضح. إنّ الميزان والمعيار والمرجع في ذلك هو كتاب الله تعالى، القرآن الكريم، ألمْ يسمِّه الله تعالى فرقاناً لأنه يفرق بين الحقّ والباطل، فقال تعالى: ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ.

أجل إنّ القرآن هو الميزان والمعيار، ولكن قد يعلِّق البعض على هذا الجواب بأنّ القرآن الكريم هو دستور للحياة، ولكنّه لم يحتوِ كلّ تفاصيلها بحيث يفهم ذلك إنسان يطّلع عليه، ولو سلَّمنا بأنّ فيه أو منه تستخرج كلّ التفاصيل المطلوبة لحياة الإنسان، فإنّ أكثر الناس لا يستطيعون استخراج تلك التفاصيل منه. وما يدعم وجهة النظر هذه أنّ ما ذُكِر من اتجاهات سابقاً وغيرها أيضاً كلّها تنسب إلى هذا القرآن الكريم، وأصحابها يدَّعون انسجام اتجاهاتهم مع هذا الكتاب العزيز. من هنا كان لا بدّّ من تحديدٍ أكثر وأوضح للميزان المطلوب والذي من خلاله يحدَّد الفهم الواضح لآيات القرآن الكريم. فما هو الذي يكمّل الجواب السابق ليكون، بضميمة القرآن ميزاناً ومعياراً أو مرجعاً نحدّد على أساسه طريق التزكية الصحيحة، من الطرق الباطلة؟

الميزان = القرآن + الرسول

والجواب عن هذا السؤال يأتي أيضاً من القرآن الكريم الذي أرجع بشكل واضح تفاصيل الرّسالة الإلهيّة، إلى خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين محمّد بن عبد الله فقال تعالى: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا

إذاً السؤال عن ميزان السير والسلوك يتوجَّه إلى خاتم الأنبياء، فما هو هذا الميزان يا رسول الله؟

بين يدي الرسول لمعرفة الميزان
لقد أجاب نبيُّنا الأكرم وبيَّن الميزان بكلام واضح، وأمام ملأ عظيم يتعدَّى مئة ألف مسلم ليكون هذا الميزان متواتراً على مدى الأيّام والعصور، فهو مقياس الحقّ والباطل للشريعة التامّة الخالدة التي طالما حلم وسعى نحوها الأنبياء والأولياء عبر التاريخ.

لقد بيَّن ذلك الميزان وهو ينظر بعلمه اللّدنيّ إلى الماضي والحاضر والمستقبل من سنّته المباركة التي أكملت مع القرآن الكريم كلّ الرسالة بتفاصيلها الدقيقة التي لم تترك فراغاً سلبيّاً حتّى في حكم بقيّة الطعام بين الأسنان فورد حكمه فيها، إن هذه السُنَّة واجهت موانع عديدة في انتشارها الكامل بين كلّ الناس بما يحفظها عبر الأجيال، فمرحلة تبليغ هذه السُّنّة المتضمّنة لأحاديث الرسول الأكرم وأعماله الشريفة، وتقريره وإمضائه لأعمال غيره، لم تسنح لها سِنو مكّة الثلاث عشرة أنّ تنتشر بين الناس، وكيف تلقى الانتشار المطلوب، ولم يؤمن بالنبيّ في مكّة إلّا عدد قليل لم يتجاوزوا أربعماية مسلم على الأكثر ، وكان أغلبهم من المستضعفين المضطهدين ممّا أدَّى إلى هجرة الكثير منهم (70 عائلة) إلى الحبشة مرتين، وبالتالي انفصالهم عن تلقّي الدعوة الإسلاميّة المباشرة من النبيّ محمّد.

وفي هذه السنوات المكّية كان المشركون يضيِّقون على النبيّ والمسلمين الباقين معه ضيقاً شديداً، ويمنعونه من تبليغ دعوته للآخرين، حتّى وصل الأمر بهم إلى محاصرتهم مع جملة من الهاشميّين في شِعْب أبي طالب ثلاث سنوات حيث كانت المجاعة الشديدة...

إنّ الناظر في هذه المرحلة المكّيّة يُدرك بوضوح أنّ الفرصة لم تسنح للنبيّ إلَّا بتبليغ أساسيّات الاعتقادات والبعض من جوانب الشريعة، كما يُلاحظ القارئ الآياتِ القرآنيّة النازلة في مكّة.
وممّا يؤكِّد هذا الواقع أنّ فريضة الصوم، وهي من أوائل فروع الدين، لم تنزل في مكّة، بل في المدينة.

وانتهت هذه السنوات المكّيّة بهجرة النبيّ إلى يثرب ليقضي فيها عشر سنوات كانت مليئة بالحروب والغزوات وما شابه، إضافة إلى الخلافات التي حصلت بين القبائل من داخل المجتمع الإسلاميّ الجديد. وقد سجَّل التاريخ في الفترة المدنيَّة النبويّّة وقوع أكثر من ثمانين معركة وغزوة، وإرسال سرايا وما شابه، وكان النبيّ هو القائد العسكريّ لها.
ومن الواضح أنّ هذه الحروب والغزوات شكَّلت معوِّقات أمام تبليغ تفاصيل الشريعة الإسلاميّة والسُّنَّة النبويَّّة الشريفة.

يقول الشهيد المطهّري: "وإذا أردنا أنّ نغضّ النظر عن الواقع الكائن في مكّة والمدينة، ونفترض أنّ رسول الله سَلَك في هذه السنوات الثلاث والعشرين من البعثة نهج المعلِّم الذي لا شأن له إلَّا الذهاب إلى الصفّ وتعليم الناس، فمع ذلك لم يكن هذا الوقت وافياً كي يُبيِّن النبيّ للناس جميع ما ينطوي عليه الإسلام، فكيف إذا أضفنا لذلك التاريخ القائم (الذي امتصَّ جلَّ أوقات النبيّ) خصوصاً بشأن دين كالإسلام يبسط حاكميّته على جميع شؤون حياة البشر".

الحلّ= ولاية الحُجَج
إذاً لا بدّ من حلٍّ يتسنَّى من خلاله للنبيّ أنّ يبلِّغ ويحفظ سنّته الشريفة التي تمثّل مع القرآن الكريم توأم التشريع الكامل.
فكان الحلّ الإلهي يتمثّل بتربية إلهيّة لشخصٍ استثنائيّ يكون وعاءً لعلم النبيّ ومستودَعاً لسنَّته وحافظاً للدين الحنيف. وكان هذا الشخص هو عليّ بن أبي طالب، فكان محلَّ الفيض الإلهي والتعليم النبويّ.
وهذا ما يعطينا التفسير الواضح لتلك الجلسات الطويلة بين محمّد وعليّ وتلك الملازمة الشديدة بينهما والتي كان يعبِّر عنها أمير المؤمنين بقوله: "ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثرَ أمّه".

وكان يقول: "إذا سألت رسول الله أجابني وإن فَنِيَتْ مسائلي ابتدأني".
وأكَّدت الروايات أنّ هذا التعليم الخاصّ كان بأمر إلهي. فقد روى أبو نعيم الحافظ الشافعيّ (ت 430هـ) بإسناده عن رسول الله: "يا عليّ، إنّ الله (عزَّ وجلَّ) أمرني أنّ أدنيك وأعلّمك لتعيَ وأُنزلت هذه الآية وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ وأنت أُذُن واعية للعلم".

ولأجل هذا الدور الإلهي في إكمال تبليغ الشريعة الإلهيّة والسُّنَّة النبويّة حدَّد النبيّ أنّ للشريعة مدخلاً وأنّ لعلمه باباً من أراد أنّ يغترف لا بدّّ أنّ يدخل منه فقال: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها".

بعد الإمام علي
ولم تكن فترة حياة أمير المؤمنين ـ لا سيَّما بالظروف التي أحاطت بها ـ كافية لأداء هذا الدور الكبير في إكمال تبليغ السُنَّة النبويّّة، فخزَّن أمير المؤمنين تفاصيل الشريعة الطاهرة في الحسن والحسين ليكونا المرجع التشريعيّ ـ بالمعنى المتقدّم ـ للناس. وهذا ما يكشف لنا سرَّ قول النبيّ الذي اشتهر عنه: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا".

بعد الحسنَيْن
وشاءت الإرادة الإلهيّة أنّ تنتقل هذه السُّنَّة المطهَّرة من صدور طاهرة إلى صدور طاهرة، بعد أنّ يقوم كلّ إمام بدوره الرائد، فأودع الحسين علوم الإسلام في ابنه زين العابدين وهو في الباقر، والباقر في الصّادق، والصّادق في الكاظم، والكاظم في الرضا، والرضا في الجواد، والجواد في الهادي، والهادي في العسكري، والعسكري في قائم أهل البيت الحُجّة المهديّ عجل الله فرجه الشريف ، لتكتمل به سلسلة النور، وليكون أئمة أهل البيت مع القرآن توأم التشريع الذي خلّفه رسول الله وأمر أمّته بالتمسّك به1.


1- الشيخ أكرم بركات / كتاب السير والسلوك.

2013-05-20