يتم التحميل...

تأويل قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها

مقدمات عامة

تأويل قوله تعالى (وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) فقد اختلف فيه علماء الإسلام ونسب بعضهم نبي الله الصديق إلى الفاحشة التي نزهوا أنفسهم عنها...

عدد الزوار: 51

تأويل قوله تعالى ﴿وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فقد اختلف فيه علماء الإسلام ونسب بعضهم نبي الله الصديق إلى الفاحشة التي نزهوا أنفسهم عنها.

فقال فخر الدين الرازي اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنه وفي هذه الآية مسائل المسألة الأولى في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم ل وفي المسألة قولان أحدهما أنه عليه السلام هم بالفاحشة.

قال الواحدي في كتاب البسيط قال المفسرون والموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضا بهذه المرأة هما صحيح وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه.

قال أبو جعفر الباقر عليه السلام بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال: طمعت فيه وطمع فيه وكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة.

و عن ابن عباس رضي الله عنه قال حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن. وعنه أيضا أنها استقلت له وقعد لها بين رجليها ينزع ثيابه.

ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب وما ذكر آية يحتج به وحديثا صحيحا يعول عليه في تصحيح هذه المقالة ولما أمعن في الكلمات العارية عن الفائدة.

روي: أن يوسف لما قال ﴿ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبرئيل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك ﴿وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي.

ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء وارتفاع منازلهم عند الله من الذين نفوا الهم عنه فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب. القول الثاني أن يوسف (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بريئا من العمل الباطل والهم المحرم وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين وبه نقول وعنه نذب.

و اعلم أن الدلائل الدالة على وجود عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة ذكرناها في سورة البقرة فلا نعيدها إلا أنا نزيد هاهنا وجوها:

فالحجة الأولى: أن الزنى من منكرات الكبائر والخيانة من معرض الأمانة من منكرات الذنوب وأيضا مقابلة الإحسان العظيم الدائم بالإساءة الموجبة للفضيحة الباقية والعار الشديد من منكرات الذنوب وأيضا الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المئونة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكمال قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم العظيم من منكرات الأعمال إذا ثبت هذا فنقول إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف كانت موصوفة بجميع هذه الأربعة ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله لاستنكف منها فكيف يجوز إسناده إلى الرسول المؤيد بالمعجزات ثم إنه تعالى قال في عين هذه الواقعة ﴿كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشاءَ وذلك يدل على أن ماهية الفحشاء مصروفة عنه ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الوقعة بكونه بريئا من السوء والفحشاء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء أيضا.

فالآية تدل على قولنا من وجه آخر وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ ولا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم المدائح عقيب أن يحكي عنه ذلك الذنب العظيم فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه فإن ذلك يستنكر جدا فكذا هاهنا.

الثالث: أن الأنبياء متى صدرت عنهم زلة وهفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة ولو كان يوسف هاهنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شي‏ء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية.

الرابع: أن كل من له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام عن المعصية.

و اعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف وتلك المرأة وزوجه والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب وإبليس أيضا أقر ببراءته من المعصية وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ لم يبق للمرء المسلم توقف في هذا الباب.

أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة من الذنب فهو قوله عليه السلام ﴿هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقوله ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.

و أما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة ﴿وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وأيضا قالت ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.

و أما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك فهو قوله ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذ واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ.

و أما الشهود فقوله ﴿شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ... إلى آخر الآية.

و أما شهادة الله فقوله ﴿كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ فقد شهد الله في هذه الآية على طهارته سبع مرات أولها قوله ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ واللام للتأكيد والمبالغة.

و الثاني قوله ﴿وَ الْفَحْشاءَ أي كذلك يصرف عنه الفحشاء.

و الثالث قوله ﴿مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ مع أنه قال تعالى وعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً.

الرابع قوله الْمُخْلَصِينَ وفيه قراءتان تارة باسم الفاعل وتارة باسم المفعول فوروده باسم الفاعل دل على كونه إتيانا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى أخلصه لنفسه وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزها مما أضافوه إليه.

و أما بيان أن إبليس أقر بطهارته فلأنه قال ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ وكان هذا إقرار من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريق الهدى وعند هذا فقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله فليقبلوا شهادة الله على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في ابتداء الأمر تلامذة إبليس إلا أنا زدنا عليه في السفاهة كما قال الحروري.

و كنت فتى من جند إبليس فارتقى *** بي الأمر حتى صار إبليس من جندي
‏فلو مات قبلي كنت أحسن بعده *** طرائق فسق ليس يحسنها بعدي

فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام بري‏ء عما يقوله هؤلاء الجهال وإذا عرفت هذا فنقول الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين المقام الأول أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم به والدليل أنه تعالى قال ﴿وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وجواب لو لا هاهنا مقدم وهو كما يقال قد كنت من الهالكين لو لا أخلصك.

ثم ذكر للزجاج سؤالات وأجاب عنها ثم قال المقام الثاني في الكلام على هذه الآية أن نقول سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول إن قوله ﴿وَ هَمَّ بِها لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد ولا يتعلق بالذوات الباقية فثبت أنه لا بد من إظهار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة ونحن نضمر شيئا يغاير ما ذكروه وبيانه من وجوه الوجه الأول أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها من ذلك القبيح لأن الهم هو القصد فوجب أن يحمل في كل واحد على القصد الذي يليق به فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتمتع والقصد اللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق وإلى زجر العاصي عن معصيته والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هممت بفلان أي بضربه ودفعه فإن قالوا فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله ﴿لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.


* النور المبين /المحدّث العلامة نعمة الله الجزائري.

2012-11-28