يتم التحميل...

حسن المعاشرة

العلاقة مع المجتمع

من وصية أمير المؤمنين عليه السلام لبنيه عند احتضاره: "يا بنيّ عاشروا الناس عشرة إن غبتم حنّوا إليكم، وإن فُقدتم بكوا عليكم".إن للعشرة حقوقاً وآداباً رسمها الإسلام، وبقدر مراعاتها والحفاظ عليها يكون النجاح في العلاقات مع الآخرين.

عدد الزوار: 47

من وصية أمير المؤمنين عليه السلام لبنيه عند احتضاره:"يا بنيّ عاشروا الناس عشرة إن غبتم حنّوا إليكم، وإن فُقدتم بكوا عليكم"1.

أ- مع الوصية

إن للعشرة حقوقاً وآداباً رسمها الإسلام، وبقدر مراعاتها والحفاظ عليها يكون النجاح في العلاقات مع الآخرين، وهي على درجات في بناء الأواصر والروابط بمقدار التودد والتواصل، وتشكّل قضية من القضايا التي تحتل مكانة محورية في الحياة الداخلية بين المسلمين وكذلك في حياتهم الخارجية مع أبناء الأديان الأخرى وإذا قرأنا سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام لوجدناها مليئة بأخبار الذين اعتنقوا الإسلام تأثراً بالمعاملة التي قابلهم بها عظماؤنا، كقصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك اليهودي الذي كان يرمي القمامة على باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

والمعاشرة بالحسنى سبب من أسباب القوة والتماسك وتوجد مناعة حيوية في المجتمع، بينما الاختلاف والتشرذم عامل هدّام وسبب من أسباب الضعف إن لم يكن هو الضعف نفسه.

وها هو القرآن الكريم ينادي إلى حسن العشرة مع الوالدين والأقرباء واليتامى والمساكين والجيران وسائر الأصناف الذين وردوا في قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا(النساء:36).

وفيما يوصي مولى المتقين علي عليه السلام بنيه هو المحافظة على أعلى درجات العشرة الطيّبة والمعاملة الحسنة التي تصل إلى حدٍ لو غاب صاحبها لحنّ الناس إليه واشتاقوا إلى رؤيته ومجالسته والاستماع إلى منطقه الجميل والاستفادة من آدابه العالية، وكذلك إن فقد أو مات لبكوا عليه لأنهم فقدوا برحيله يدَ عونٍ، ونظرة رأفة ورحمة، ووجهاً من وجوه الخير والسعادة، لأنها متجسّدة بأجمعها في صاحب العشرة الطيبة، وحياته المليئة بالشمائل الإسلامية.

وفي المقابل لو كان الإنسان سيى‏ء العشرة فإن الناس سوف يقولون عند غيابه أو فقدانه، لقد انقطع ظلمه، وانتهت عباراته الجارحة وأراحنا اللَّه تعالى من وجهه المشؤوم وغير ذلك جرّاء ما كان يسبّبه لهم من عناء وتعب أو ظلم واضطهاد.

ب- الميزان في معاشرة الناس‏
قد يتساءل بعضنا عن ضوابط العشرة وحدودها وما هو الميزان الذي ينبغي أن تزان الأمور به حيث مفردات العلاقة مع الآخرين كثيرة ومتشعبة وقد يضيع الإنسان في شعبها إن لم يكن على بصيرة من أمره، فهل يعني حسن معاشرة الجار الدفاع عنه ولو كان ظالماً؟

وهل تعني المعاملة الجميلة التبسّم والسكوت للجليس حتى وإن كان كلامه باطلاً أو جارحاً أو يمثّل غيبة للآخرين وطعناً معنوياً لهم؟

وهل يعني حسن معاملة الأولاد ترك الاختيار لهم في الالتزام بالأحكام الشرعية وعدم الالتزام بها من قبيل تخيير البنت بين الحجاب وعدمه أو غير ذلك؟

الجواب إن العشرة بأسوء درجاتها ومراحلها تتمثّل في الاقرار والامضاء للمنكر، وليس من حسن العشرة كما تقدم في التساؤلات، بل على العكس تماماً يقتضي التعامل بإحسان أن أوقف الآخرين عن التجاوز وارتكاب المحارم وأعاونهم على الخيرات وآداء الحقوق سواء حقوق أنفسهم أو حقوق الآخرين لديهم فضلاً عن الحق الإلهي بالطاعة.

لكن في معالجة الموقف وتصحيح المسار موازين بعد الانتهاء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواجب التعاون والاصلاح تحدّث عنها أمير المؤمنين عليه السلام بوضوح حيث قال: "اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، وأحب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره لها ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح لنفسك ما تستقبحه من غيرك وارض من الناس، ما ترضى لهم منك"2.

وعن الإمام الحسن عليه السلام: "صاحب الناس مثل ما تحب أن يصاحبوك به"3

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنه ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه ومرافقة من رافقه، وممالحة من مالحه، ومخالقة من خالقه"4.

ولقد تعرّضت بعض الأحاديث إلى ما ينبغي بذله في هذه العشرة باعتباره محققاً للأهداف النبيلة وطريقاً إلى الموقف الذي تؤكد عليه.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ابذل لأخيك دمك ومالك، ولعدوّك عدلك وانصافك، وللعامة بشرك وإحسانك"5.

وفي حديث آخر عنه عليه السلام: "ابذل لصديقك نصحك، ولمعارفك معونتك ولكافة الناس بشرك"6.

وفي حديث ثالث عنه عليه السلام: "صاحب الإخوان بالإحسان وتغمّد ذنوبهم بالغفران"7.

ج- نتائج حسن العشرة
تترك العشرة الذهبية بين أبناء المجتمع آثارها في ديمومته متحاباً متواصلاً وموطناً للراحة والاطمئنان فقد ورد عنهم عليهم السلام أحاديث عديدة تكشف عن النتائج الهامة للعشرة الكريمة:

1- دوام المودة

في الحديث: "بحسن العشرة تدوم المودّة"8.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "حسن العشرة يستديم المودّة"9.

2- دوام الوصلة

في الحديث: "بحسن العشرة تدوم الوصلة"10.

3- عمارة القلوب

في الحديث: "عمارة القلوب في معاشرة ذوي العقول"11.

وفي حديث آخر: "معاشرة ذوي الفضائل حياة القلوب"12.

4- السعادة والنبل

عن مولى المتقين علي عليه السلام: "عاشر أهل الفضل تسعد وتنبل"13.

5- أنس الرفيق

في الحديث: "بحسن العشرة تأنس الرفاق"14.

6- السلامة من الغوائل

فيما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "جاملوا الناس بأخلاقكم تسلموا من غوائلهم، وزايلوهم بأعمالكم لئلا تكونوا منهم"15.

د- حسن العشرة في المنزل‏


حينما نتحدث عن حسن العشرة نريد منه المجموع لا الاكتفاء بفرد دون آخر، فلو كانت علاقة الإنسان ممتازة مع أخوانه وأصدقائه أو مع جيرانه ولكنه في نفس الوقت لا يهتم بمراعاة الآداب مع عائلته داخل المنزل وتلقى منه الويلات والمصائب في كلماته النابية ومعاملته السيئة فهو ليس على خير ولم يقم بما هو مطلوب منه كاملاً، لأن المطلوب هو المجموع أي حسن العشرة مع الكل ولا يعذر المرء إذا أساء المعاملة مع أولاده أو بعض أرحامه بداعي المحافظة على حسن ارتباطه بالآخرين، فالمعاشرة المنزلية الجميلة أمر لا غنى عنه وجزء لا يتجزأ من منظومة المعاشرة بإحسان بل هي الجزء الأهم والأساس.

يقول مولانا الصادق عليه السلام: "إن المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خلال يتكلّفها وإن لم يكن في طبعه ذلك: معاشرة جميلة، وسعة بتقدير، وغيرة بتحصّن"16.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام: "لا يكن أهلك أشقى الخلق بك"17.

وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الرجل ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم، وإنه ليكتب جبّاراً ولا يملك إلا أهل بيته"18.

وقد رتّب اللَّه تعالى جزيل الثواب على الصبر وحسن العشرة البيتية والتجاوز عن عثرات الأهل كما يحدثنا مولانا الباقر عليه السلام حيث يقول: "إني لأصبر من غلامي هذا ومن أهلي، على ما هو أمرّ من الحنظل، إن من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم، ودرجة الشهيد الذي ضرب بسيفه قدّام محمد صلى الله عليه وآله وسلم"19.


قصة للعبرة
أزال الغم عن قلب طفلةِ الشهيد

بعثت سيد إيطالية رسالة إلى الإمام الخميني قدس سره ومعها قلادة ذهبية، وكان في متن الرسالة كلمة قال المترجم إنها ليست انجليزية، ولذلك بقيت الترجمة الكاملة للرسالة معلقة فترة ولم نستطع التصرف في هذه القلادة خلالها إلى أن تمكنا من ترجمة الرسالة بالكامل، فاتضح أن هذه السيدة هي مسيحية وقد خاطبت الإمام قائلة: لقد وجدتُ عيسى المسيح عليه السلام يتجلى في وجودك حقاً ووجدتك "روح اللَّه" حقاً، وأشعر الآن أنني أعيش في عهد السيد المسيح عليه السلام وإني وإن كنت لم أركَ إلى اليوم لكنني أحس أن الروح العيسوية تُبعثُ في وجودي ببركةِ وجودكم. إنني أعشق السيد المسيح عليه السلام وأراك التجسيد العملي له في هذا العصر، ولذلك فإنني أهدي لك هذه القلادة وهي هدية زواجي وأعز وأنفس ما أملك لكي تنفقها فيما تراه المحل المناسب لها.

حملنا القلادة إلى الإمام قدس سره وقدّمناها له بعد أن أطلعناه على مضمون الرسالة، فأخذها ووضعها في علبة أقلامه، وفي اليوم التالي كنا عند الإمام، فأتوا بطفلةٍ صغيرةٍ فُقد والدها في الجبهة، أبقوا الطفلة في ساحة المنزل وكان الفصل شتاءً وليست للإمام لقاءات عامة وجاؤوا للاستئذان من الإمام بإدخالها عليه، وأثناء ذلك ارتفع صوت بكاء الطفلة التي شعرت بغربةٍ وهي ترى نفسها وحيدةً في ساحة المنزل، فرفع الإمام قدس سره رأسه ونظر إلى ساحة المنزل فآذاه كثيراً بكاء الطفلة وخاطبنا بلهجةٍ عنيفة مؤنباً لنا على ترك الطفلة في ساحة المنزل وأمر بإدخالها عليه فوراً، تركنا أعمالنا فوراً وذهبنا وعدنا بالطفلة وأدخلناها عليه وآثار الأذى لما أصابها كانت لا تزال ظاهرة على محياه، فتح لها ذراعيه واحتضنها وضمها إلى صدره، ثم أجلسها في حجره ووضع خده على خدها ثم أخذ يلاطفها ويحدثها همساً حتى زال عنها الغم والحزن وضحكت، ثم أخذ القلادة التي أهدتها له السيدة الإيطالة وقلدها للطفلة بنفسه فغمرها السرور الذي شاهدناه متجلياً على وجهها وهي تخرج من غرفته.
 
*من وصايا العترة عليهم السلام ، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، ربيع اول1424هـ ، ص95-104.


1- البحار، ج‏42، ص‏247.
2- البحار، ج‏77، ص‏203.
3- اعلام الدين، ص‏297.
4- مستطرفات السرائر، ص‏61.
5- البحار، ج‏78، ص‏50.
6- غرر الحكم: 2466.
7- م.ن. 5832.
8- ميزان الحكمة، حديث: 12988.
9- م.ن. حديث: 12989.
10- م.ن. حديث: 12991.
11- م.ن. حديث: 13001.
12- م.ن. حديث: 13003.
13- م.ن. حديث: 13002.
14- م.ن. حديث: 12990.
15- تنبيه الخواطر، ج‏2، ص‏14.
16- البحار، ج‏78، ص‏236.
17- نهج البلاغة، الكتاب 31، والحكمة 257.
18- ميزان الحكمة، حديث: 12957.
19- ثواب الأعمال، ص‏235.
2012-04-30