يتم التحميل...

حقيقة البداء في ضوء الكتاب والسُّنة

العدل

المراد من البداء عند الشيعة الإمامية ليس إلاّ تغيير المصير والمقدّر بالأعمال الصالحة والطالحة.فليس الإنسان في مقابل التقدير مسيّراً بل هو بعد مخيّر في أن يغيره بصالح أعماله وبطالحها، حتى أنَّ هذا تمكن الإنسان من تغيير المصير بالعمل أيضاً جزء من تقديره سبحانه.

عدد الزوار: 40
المراد من البداء عند الشيعة الإمامية ليس إلاّ تغيير المصير والمقدّر بالأعمال الصالحة والطالحة. فليس الإنسان في مقابل التقدير مسيّراً بل هو بعد مخيّر في أن يغيره بصالح أعماله وبطالحه ، حتى أنَّ هذا (تمكن الإنسان من تغيير المصير بالعمل) أيضاً جزء من تقديره سبحانه.

فبما أنه سبحانه ﴿كُلَّ يَوْم هُوَ فِي شَأْن(الرحمن:29). وبما أنَّ مشيئته حاكمة على التقدير ، وبما أنَّ العبد مختار لا مسيّر ، فله أن يغير مصيره ومقدره بحسن فعله ويخرج نفسه من عداد الأشقياء ويدخلها في عداد السعداء ، كما أنَّ له عكس ذلك.

وبما أنَّ الله ﴿لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ(الرعد:11) ، فالله سبحانه لا يغير قدر العبد إلاّ بتغيير من العبد بحسن عمله وسوئه ولا يعد تغييرالتقدير الإلهي بحسن الفعل وسوئه معارضاً لتقديره الأول سبحانه ، بل هوأيضاً جزء من قدره وسنته. فإنَّ الله سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر ، لم يقدره ولم يقضه عليه على وجه القطع والحتم، بحيث لا يتغير ولا يتبدل ، بل قضاؤه وقدره على وجه خاص، وهوأنَّ ما قدّر للعبد يجري عليه ما لم يغير حاله بحسن فعله وسوئه، فإذا غيّر حاله تغيّر قَدَر الله وقضاؤه في حقه وحلّ مكان ذلك القدر قَدَرٌ آخر، ومكان ذلك القضاء قضاء آخر. والجميع (من القضاء والقدر السابقين واللاّحقين) قضاء الله وقدره، وهذا هوالبداء الّذي تتبناه الإمامية من مبدأ تاريخها إلى هذا الوقت. ولأجل إيقاف الباحث على صدق هذا المقال نأتي ببعض النصوص لأقطابها القدماء حتّى يعرف أنَّ ما نسب إليها من معنى البداء أمر لا حقيقة له.

قال الشيخ الصدوق (ت 306 ـ م 381 هـ) في باب الاعتقاد بالبداء: "إنَّ اليهود قالوا: إنَّ الله تبارك وتعالى قد فرغ من الأمر، قلنا: بل هو تعالى ﴿كُلَّ يَوْم هُوَفِي شَأْن(الرَّحمن:29) لا يشغله شأن عن شأن ، يحيي ويميت ويخلق ويرزق ويفعَل ما يشاء. وقلنا: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ(الرعد:39)"1.

وقال الشيخ المفيد (ت 336 ـ م 413 هـ) في (شرح عقائد الصدوق): "قد يكون الشيء مكتوباً بشرط فيتغير الحال فيه، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ(الأنعام:2). فتبين أنَّ الآجال على ضربين، وضرب منها مشترط يصحّ فيه الزيادة والنقصان. ألا ترى قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّر وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَاب(فاطر:11).

وقوله تعالى: ﴿وَلَوأنّ أهْلَ القُرى آمَنُوا واتّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهم بَرَكات مِنَ السَّماءِ والأرضِ(الأعراف:96).

فبّين أن آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر والانقطاع عن الفسوق.

وقال تعالى فيما أخبر به عن نوح عليه السَّلام في خطابه لقومه: ﴿استغفِرُوا رَبَكُم إِنّه كانَ غَفّاراً * يُرسِلِ السَماءَ عَلَيكُم مِدراراً...(نوح:10-11)إلى آخر الآيات.

فاشترط لهم في مدّ الأجل وسبوغ النعم ، الاستغفار. فلما لم يفعلوا قطع آجالهم وبتر أعمالهم واستأصلهم بالعذاب، فالبَداء من الله تعالى2 يختص بما كان مشترطاً في التقدير وليس هوالانتقال من عزيمة الى عزيمة، تعالى الله عما يقول المبطلون علواً كبير"3.

وقال أيضاً في (أوائل المقالات): "أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله ، من الإفقار بعد الغناء ، والإمراض بعد الإعفاء، وبالإماتة بعد الإحياء ، وما يذهب إليه أهل العدل خاصة من الزيادة في الآجال والأرزاق النقصان منها بالأعمال"4.

وقال الشيخ الطوسي (ت 385 ـ م 460 هـ)في (العدة): "البَداء حقيقة في اللغة هوالظهور، ولذلك يقال: "بدا لنا سور المدينة"و"بدا لنا وجه الرأي". وقال الله تعالى ﴿وَبَدَا لَهُم سَيَّئَاتُ ما عَمِلوا(الجاثية:33).

﴿وَبَدَا لهُم سَيَّئات ما كَسَبوا(الزمر:48)ويراد بذلك كله "ظهر".

وقد يستعمل ذلك في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا وكذلك في الظن. وأَما أِذا أُضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ومنه ما لا يجوز. فأما ما يجوز من ذلك فهوما أفاد النسخ بعينه ويكون إطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع. وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين عليهم السَّلام من الأخبار المتضمنة إضافة البداء إلى الله تعالى، دون ما لا يجوز عليه: من حصول العلم بَعدَ أن لَم يكن. ويكون وجه إطلاق ذلك على الله تعالى، التشبيه وهوأنَّه إِذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهراً لهم ويحصل لهم العلم به بعد أَن لم يكن حاصلا لهم أطلق على ذلك لفظ البداء"5.

ويريد الشيخ أن أطلاق البداء على الله تعالى لأجل كونه بداءً في أذهان الناس، وظهوراً بعد خفاء، فكان ذلك مصححاً لإطلاقه على الله سبحانه بالمجاز والتوسع، كما عرفت نظيره في بعض الألفاظ.

هذا بعض ما أفاده علماء الشيعة القدامى، وأما ما كتبه المتأخرون حوله فحدث عنه ولا حرج وفي وسعك المراجعة إليه6.

فبأي وجه فسّر كلام النبي يفسر به كلام أوصيائه.

فاتضح بذلك أنَّ التسمية من باب المشاكلة وأنَّه سبحانه يعبر عن فعل نفسه في مجالات كثيرة بما يعبر به الناس عن فعل أَنفسهم، لأجل المشاكلة الظاهرية، ولكونه مقتضى المحاورة مع الناس والتحدث معهم.

وباختصار: إنَّ البحث في حقيقة البداء المقصودة للامامية أمر اتفق المسلمون حسب نصوص كتابهم وأحاديث نبيّهم عليه ، ولا يمكن لأحد إنكاره.

وأَما التسمية بالبداء فمن باب المشاكلة والمجاز ، فمن لم يستسغه فليسمه باسم آخر "وَليَتَّق الله ربه في أخيه المؤمن ، ولا يبخس منه شيئاً" ﴿وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أشياءَهُم وَلا تَعثَوا في الارضِ مُفسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللهِ خَير لَكُم إن كُنتُم مُؤمِنِينَ(هود:85ـ86).

وبذلك تقف على أنَّ ما ذكره الامام الأشعري في (مقالات الاسلاميين)7. والبلخي في تفسيره8 ، والرازي 9 ، وغيرهم حول البداء ، لا صلة له بعقيدة الشيعة فيه. فانهم فسروا البداء لله بظهور ما خفي عليه والشيعة براء منه ، بل البداء عندهم تغيير التقدير بالفعل الصالح والطالح فلوكان هناك ظهور بعد الخفاء فهوبالنسبة الينا لا بالنسبة الى الله تعالى ، بل هوبالنسبة اليه ابداء ما خفي واظهاره. ولوأطلق عليه فمن باب التوسع.

بقيت أُمور يجب التنبيه عليها:

الأثر التربوي للبداء
إنَّ الأثر التربوي الذي يترتب على القول بالبداء أمر لا يمكن إنكاره ، كيف والاعتقاد بالبداء يبعث الرجاء في قلوب المؤمنين ، كما أنَّ انكاره والالتزام بأَنَّ ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة دون استثناء ، يترتب عليه اليأس والقنوط. فيستمر الفاسق في فسقة والطاغي في طغيانه ، قائِلَين بأنه اذا كان قلم التقدير مضى على شقائنا، فلأي وجه نغير نمط أعمالنا بأعمال البر والتضرع والدعاء.

إنَّ الاعتقاد بالبداء يضاهي الاعتقاد بقبول التوبة والشفاعة وتكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، فانَّ الجميع يبعث الرجاء في النفوس ويشرح قلوب الناس أجمعين ، عصاة ومطيعين حتى لا ييأسوا من روح الله ولا يتصوروا أنَّهم إذا قدر كونهم من الأشقياء فلا فائدة في السعي والكدح بل يعتقدوا بأَنَّ الله سبحانه لم يجف قلمه في لوح المحووالإثبات ، فله أن يمحوما يشاء ويثبت ما يشاء ، ويسعد من شاء ، ويُشقِيَ من شاء ، حسب ما يتحلى به العبد من مكارم الأخلاق وصالح الأعمال ويرتكب من طالحها وفاسدها. وليست مشيئته سبحانه جزافية غير تابعة لضابطة حكيمة ، فلوتاب العبد وعمل بالفرائض ، وتمسك بالعصم ، خرج من صفوف الأشقياء ودخل في عداد السعداء وبالعكس.

وهكذا كل ما قدر في حق الإِنسان من الحياة والموت والصحة والمرض والغنى والفقر يمكن تغييره بالدعاء والصدقة وصلة الرحم وإكرام الوالدين ، فالبداء يبعث نور الرجاء في قلوب هؤلاء.

البداء ليس تغييراً في علمه ولا في إرادته سبحانه
إنَّ علمه سبحانه ينقسم الى علم ذاتي وعلم فعلي ، فعلمه الذاتي نفس ذاته وهولا يتغير ولا يتبدل ، وأَما علمه الفعلي فهوعبارة عن لوح المحووالإثبات ، فهو مظهر لعلم الله في مقام الفعل ، فاذا قيل بدا لله في علمه فمرادهم البداء في هذا المظهر.

وان شئت قلت: إنَّ مراتب علمه سبحانه مختلفة ، ومحالُها متعددة. فأَولها وأعلاها العلم الذاتي المقدس عن التكثّر والتغير وهومحيط بكل شيء وكل شيء حاضر عنده بذاته. ثم يليه علمه الفعلي وله مراتب ومظاهر كاللوح المحفوظ ولوح المحووالاثبات ونفوس الملائكة والأنبياء. فلوكان هناك تغيير فانما هوفي هذه المظاهر ، وبالأخص لوح المحووالاثبات. فيقدر في ذلك اللوح كون الشخص من السعداء ولكنه يرتكب عملا طالحاً يوجب التغيير فيه فيكتب من الأشقياء ، ومثله خلافه. وإليه يشير سبحانه: ﴿يَمحوالله ما يَشاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتابِ.

فالظاهر من الآية أَنَّ ام الكتاب هوالكتاب الوسيع الأصيل الذى يكتب فيه تقدير الكائنات بجملتها ومنها الإِنسان ، ولأجل ذلك يكون مصوناً من التغيير، لانعكاس جميع التقديرات فيه جملة واحدة وهذا بخلاف لوح المحووالاثبات فيكتب فيه التقدير الأول ولكنه لما كان مشروطاً بشرط غير متحقق ، يغيره التقدير الثاني.

وبذلك يظهر أنَّ التغيير في التقدير لا يلازم في التغيّر في العلم والإرادة وإنما التغيير في مظاهر علمه الفعلي أَي ما خلقه من الألواح والنفوس التى تنعكس فيها تقاديره. وعلى ضوء ذلك فيما أخذه أبوزهرة المصري في كتابه (الامام الصادق) ، على الشيعة الامامية في مسألة البداء ناشئ عن الغفلة عن محل المحو والإثبات وطروء التغير والتحول حيث قال: "من البداء الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال ولا شك أنَّ الزيادة في الآجال ، ان أريد ما قَدَّره الله تعالى في علمه الأزلي والزيادة عما قدر ، فذلك يقتضي تغيير علم الله ، وإن أُريد الزيادة عمّا يتوقعه الناس فذلك ممن ينطبق عليهم قوله تعالى:﴿وَبَدا لَهُم مِنَ الله مَا لَم يَكُونُوا يَحتَسِبُون"10.

فيلاحظ عليه أولا: إنَّ زيادة الآجال والأرزاق ونقصانها بالأعمال مما لم تنفرد به الشيعة الإِمامية. ومن العجيب أن يغفل عما رواه أَئمة أهل الحديث.

وثانياً: إنَّ الزيادة في الآجال والأرزاق وإن كانت توجب التغيير في التقدير ، لكنها لا توجب التغيير في علم الله ومشيئته وإِرادته.

ومنشأ الخلط بين الأمرين هوجعل تقديره سبحانه نفس علمه الذاتي ، وتوهم أنَّ التغيير في الأول يوجب التغيير في الثاني. بل التقدير إنما هو في مظاهر علمه التي تسمى علماً فعلياً، وهي عبارة عن الألواح الواردة في الكتاب والسنة: من المحفوظ ، والمحووالاثبات. فزعم الكاتب أنَّ لله علماً واحداً وهوعلمه الأزلي وأنَّه هو مركز التقدير واستنتج منه أنَّ القول بالبداء يستلزم تغيير العلم الذاتي.

نعم هوسبحانه يعلم من الأزل أي عبد يختار أي واحد من التقديرين على مدى حياته ، وأَي عبد ينتقل من تقدير إلى تقدير ، فليس ها هنا تقدير واحد بل التقديرات بجملتها موجودة هناك بوجود جمعي لا يستلزم الكثرة والتثني.

البداء في تقدير الموقوف لا المحتوم
إنَّ البداء (تغيير التقدير بالأعمال) انما يتصور في التقدير الموقوف. وأما القطعي المحتوم فلا يتصور فيه. وتوضيح ذلك بما يلي:

إنَّ لله سبحانه قضاءين: قضاءً قطعياً وقضاءً معلق ، أَما الأول فلا يتطرق اليه البداء ولا يتغير أبداً.

وأما الثاني فهوالذي يتغير بالأعمال الصالحة والطالحة. وقد صرّح أئمتنا في أحاديثهم بهذا الأمر ونصّوا على هذا التقسيم.

والمراد من التقدير الحتمي ما لا يبدل ولا يغير ولودُعي بألف دعاء. فلا تغيّره الصدقة ولا شيء من صالح الأعمال وطالحه. وذلك كقضائه سبحانه للشمس والقمر مسيراً إلى أجل معين، وللنظام الشمسي عمراً محدداً، وتقديره في حق كل إنسان بأنه يموت، إلى غير ذلك من السنن الثابتة الحاكمة على الكون والإِنسان.

والمراد من الثاني الأمور المقدّرة على وجه التعليق، فقدّر أن المريض يموت في وقت كذا إلاّ إذا تداوى ، وأجريت له عملية جراحية ودعي له وتُصُدَّقُ عنه وغير ذلك من التقادير التي تتغير بإيجاد الشرائط والموانع، والله سبحانه يعلم في الأزل كلا التقديرين: المَوقُوف، وَتَحَقُّق الموقوف عليه وعدمه. وله نظائر حتى في التشريع الكلي والسنن الوسيعة الالهية، فقد قضى سبحانه في حق المسرفين بأنهم أَصحاب النار، وقال حاكياً عن مؤمن آل فرعون: ﴿وَأنَّ مَرَدَّنا إلى الله وَاَنَّ المُسرفينَ هُم أصحَابُ النَّار(غافر:43).

غير أَنَّ هذا التقدير حتى بصورته الكلية ليس تقديراً قطعياً غير قابل للتغيير بشهادة قوله سبحانه: ﴿قُل يا عِبادِيَ الَّذينَ أسرَفوا عَلى أَنفُسِهَم لا تَقنَطُوا مَن رَحمَةِ اللهِ(الزمر:53)والهدف من الآيتين تقوية حرية الإِنسان وتفهيمه بأن له الخيار في اختيار أي واحد شاء من التقديرين.

وإليك بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت حول هذا التقسيم:

سئل أبوجعفر الباقر عليه السَّلام عن ليلة القدر ، فقال "تنزل فيها الملائكة والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما هوكائن في أمر السنة.

قال: وأمر موقوف لله تعالى فيه المشيئة ، يقدّم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء.

وهو قوله: ﴿يَمحُواللهُ ما يَشاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُ الكِتابِ11.

وروى الفضيل قال: سمعت أبا جعفر يقول: "من الأمور محتومة جائية لا محالة ، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء ، لم يطلع على ذلك أحداً يعني الموقوفةفأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته"12.

وفي حديث قال الرضا عليه السَّلام لسليمان المِرْوَزي: "يا سليمان إِنَّ من الأمور أموراً موقوفة عند الله تبارك وتعالى يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء"13.

هذا بعض ما ورد في تقسيم التقدير إلى قسميه.

وقد خرجنا بهذه النتيجة وهي: أنَّ التقدير على نوعين موقوف وغير موقوف ، والله سبحانه من وراء الكل واقف على تحقق الموقوف عليه.

الأجل والأجل المسمى
إِن القرآن الكريم يصف الكائنات السماوية والأرضية بأَنَّ لها "أجل"و"أجلا مسمى". فما هوالمراد منهما؟

إنَّ "الأجل"بلا قيد هوالتقدير الموقوف. "والأجل المسمى"هوالمحتوم. وإليك بيانه

 قال سبحانه: ﴿هُوَالذي خَلَقَكُم مِن طِين ثُمَّ قَضَى أجَلا وَأجَلٌ مُسمّىَّ عَندَهُ ثُمَّ أَنتُم تَمتَرُونَ(الأنعام:2).

قال سبحانه: ﴿هوالذي خَلَقَكم مَن تراب ثُمَّ مِن نُطفة ثم مِن عَلَقَة ثُمَّ يُخرِجكم طِفلا ثمَّ لِتَبلغوا أَشدَّكم ثمَّ لِتَكونوا شُيوخاً وَمِنكُم مِن يُتَوَفى مَن قَبلُ وَلِتبلُغُوا أَجلا مُسمّى وَلَعَلَكُم تَعقِلُونَ(غافر:67).

إنَّ الله سبحانه جعل للإنسان في هاتين الآيتين أجلين مطلقاً ومسمّى ، كما أنَّه جعل للشمس والقمر أجلاً مسمّى ، قال سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَل مُسَمّىً(الرعد:2). ومثله في الزُّمر المباركة ، الآية الخامسة. وإليك توضيح مفهوم الأجلين بالمثال التالي:

إذا وهب الله تعالى لأحدنا ولداً وأُجريت عليه مختلف الفحوص الطبية بحيث أطمأن الأطباء أنَّ باستطاعة هذا الوليد أن يحمل أعباء الحياة إلى مائة سنة ، فمن الواضح أنَّ معنى هذا ليس أكثر من "الإمكان"و"الاقتضاء". وليس معناه أنه يعيش هذه المدة كيفما كان ، وفي أي وضع كان بل هومشروط بشروط عديدة ، منها استمرار صحته وعدم عروض مانع لاستمرار بقائه ، حتى تصل هذه القابلية من القوة إلى الفعلية. وإلاّ فربما يموت قبل أن يصل إلى تلك المدة.

وعلى ضوء هذا فللطفل من يومه الأول أجلان
1ـ أجل مطلق ، وهوإمكانه واقتضاؤه للبقاء ، وقابليته الجسمية لمدة مائة سنة من العمر. وحيث إنَّ لاستمرار البقاء في هذا الكوكب سلسلة من الشرائط والمقتضيات ، ولا يعلم بالجزم واليقين تحققه ، يكون هذا أجلا مبهماً لا محتوماً ومبرم.

2ـ أجل محتوم ، وهومقدار عيشه حسب تحقق شروطه في الواقع ونفس الأمر ، وعدم تحققه. وهذا هوالذي لا يقف عليه إلاّ الخبير والمحيط بالعالم وتحقق الشرائط وعدمها وما يعرض على الطفل في مسير حياته ، وليس هوإلاّ الله سبحانه. اذ هوالذي يعلم ما يعرض للطفل مما يوجب طول حياته وقصره.

وهذا تقدير مقطوع به بعيد عن أي إبهام وترديد.

وقد عبّر القرآن الكريم عن الأول بالأجل ، الشامل بإطلاقه للموقوف والمحتوم والممكن والمتحقق ، وعن الثاني بالأجل المسمَّى ، الشامل لخصوص المحتوم ، وخصّ العلم بالأجل المسمَّى بنفسه تعالى ، دون العلم بالأجل المطلق ، فقال: (وأَجَلٌ مُسَمَّى عِندَهُ). ولأجل أنَّ شرائط الحياة للإنسان تختلف حسب توفر الشروط وعدمها جعل للإنسان أجلين ، مع أنه لم يجعل للشمس والقمر إلاّ أجلا واحداً وهوالأجل المسمَّى.

وإلى الأجل المسمى يشير قوله سبحانه: ﴿فَإذا جَاءَ أَجَلُهُم لا يَستَأخِرُون ساعةً ولا يَستَقدِمُونَ(الأعراف:34 والنحل:61).

وإلى ما ذكرنا من التفسير يشير الإمام الصادق بقوله: "أجلٌ مسمى وهو قوله تعالى: ﴿فَإِذا جَاءَ أَجَلُهُم لا يَستَأخِرُونَ ساعةً ولا يَستَقدِمُونوأَجَلٌ غير مُسَمَّى يتقدم ويتأخر"14.

وقال عليه السلام أيضاً في تفسير قوله سبحانه: (ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ).

قال: "الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما شاء ، وأما الأجل المسمى فهوالذى ينزل ممَّا يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل ، فذلك قول الله: ﴿فَاِذَا جَاءَ أَجَلُهُم لا يَستَأخِرُون سَاعَةً وَلا يَستَقدِمُونَ15.

وقد فَسر غيرُ واحد من المفسرين كلا الأجلين بما ذكرنا، وذكر الرازي الوجه المروي عن حكماء الإسلام وقال:

"إنَّ لكل انسان أجلين أحدهم: الآجال الطبيعية والثاني الآجال الاخترامية. أما الآجال الطبيعية فهي التي لوبقي ذلك المزاج مصوناً عن العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه الى الوقت الفلاني ، وأمَّا الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بالأسباب الخارجية كالغرق والحرق وغيرهما من الأمور المنفصلة"16.

وقال العلاّمة الطباطبائي: "إِنَّ الأجل أَجلان: الأجل على ابهامه ، والأجل المسمى عند الله تعالى. وهذا هوالذي لا يقع فيه تغيير لمكان تقييده بقوله "عِندَهُ" ، وقد قال تعالى: ﴿. . . وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ. . . (النحل:96). وهوالأجل المحتوم الذي لا يتغير ولا يتبدل ، قال تعالى: ﴿اذا جِاءَ أَجَلُهُم فَلا يَستَأخِرُونَ ساعةً ولا يَستَقدِمُون(يونس:49). فنسبة الأجل المسمى الى الأجل غير المسمى ، نسبة المطلق المنجز الى المشروط المعلق ، فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علّق عليه ، بخلاف المطلق المنجز ، فانه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة.

والتدبّر في الآيات يفيد أنَّ الأجل المسمى هوالذي وضع في أُم الكتاب ، وغير المسمى من الأجل هوالمكتوب فيما نسميه بـ "لوح المحووالإِثبات".

وبتعبير آخر: إنَّ أُم الكتاب قابلُ الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى أسبابها التامة التي لا تتخلف عن تأثيره ، ولوح المحووالإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب الناقصة التي ربما نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانهابموانع تمنع من تأثيرها"17.

نعم ، يقع السؤال عن نكتة ذينك التحديدين ، وأنه اذا كان الأجل غير المسمى يختلف مع المسمى غالباً، فأي فائدة في ترسيمه؟

ولكن الاجابة عنه واضحة ، وهي أن ترسيمه يثير النشاط في المجتمع الإِنساني حتى يقوم بتهيئة الشرائط ورفع الموانع للبلوغ الى ذلك الأجل والعمر الطويل الذي حدَّدوه بمائة وعشرين سنة.

أضف الى ذلك أنَّ هذين الترسيمين نتيجة ارتباط أجزاء الكون وتأثيره في الوجود الإِنساني فان التركيب الخاص للشخص الإِنساني وان كان يقتضي أن يعمّر العمر الطبيعي ، وهذا يقتضي تحديداً له من حيث هونفسه ، ولكن بما أنَّ اجزاء الكون مؤثرة في حياة الإِنسان ، فربما تفاعلت الأسباب والموانع التى لا نحصيها ولا نحيط بها، فأدى الى حلول أجله قبل أن ينقضي الأجل الطبيعي وهوالمسمى بالموت الاخترامي. وليس يختص الاخترامي بالحوادث المنفصلة كالموت والحرق كما عليه الرازي في تفسيره ، بل يعم فقدان شرائط الحياة ، وسوء التغذية ، وهجوم الغصص والحوادث النفسية المؤلمة.

ما يترتب على البداء في مقام الاثبات
اذا كان البَدَاء هوتغيير المصير بالعمل الصالح والطالح ، وأنَّه يقع في الأمور الموقوفة لا المحتومة ، يسهل على الباحث علاج الإخبار بالمغيبات من جانب الأنبياء مع عدم تحققه.

ونرى من هذه الإخبارات نماذج في الكتاب والسنة:

1- رأى ابراهيم في المنام أنه يذبح ولده اسماعيل ، ورؤيا الأنبياء وحي18 ، فتلك الرؤيا الصادقة تحكي عن حقيقة ثابتة وواقعية مُسَلَّمة ، وهوأمر الله لابراهيم بذبح ولده أولاً، وتحقق ذلك في عالم الوجود ثانياً، وكأنَّ قوله: ﴿انَّي أرى في المَنامِ أَنَّي أَذبَحُكَ(الصافات:102) يكشف عن أمرين:

أ- الأمر بذبح الولد وهوأمرٌ تشريعي.

ب- الحكاية عن تحقق ذلك في الواقع الخارجي. فقد أُخبر ابراهيم بذلك من طريق الوحى. وأخبر هوولده بذلك.

ومع ذلك كله لم يتحقق ونسخ نسخاً تشريعياً، كما نسخ نسخاً تكوينياً. ويحكي عن كلا الأمرين قوله سبحانه: ﴿وَفَدَينَاهُ بِذِبح عَظِيم(الصافات:107).

فينطرح في ذهن الإِنسان : كيف يجوز أن يخبر النبي بشيء من المغيبات ثم لا يتحقق؟!

2ـ انَّ يونس عليه السَّلام أخبر قومه بنزول العذاب وأنَّه مصيبهم. ومع ذلك كله لم يأتهم19. يقول سبحانه:
﴿فَلَولا كانَت قَريَة آمَنَت فَنَفَعَها إيمانُها إلاّ قومَ يُونُس لما آمنُوا كَشَفنا عَنهُم عَذَابَ الخِزيِ في الحَيَاةِ الدُنيا وَمَتَّعناهُم الى حِين(يونس:98).

3- ما جاء في قصة موسى بن عمران حيث انَّ موسى أخبرهم بأنَّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة كما عن ابن عباس حيث قال: "انَّ موسى قال لِقَومه انَّ ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه ، وأخلفَ هارون فيكم ، فلما وصل موسى الى ربه زاده الله عشراً، فكانت فتنتهم في العشر التي زادها الله"20. قال سبحانه: ﴿وَوَاعَدنا مُوسى ثَلاثِينَ ليلةً وَأَتمَمناها بعَشر فَتَمَّ ميقاتُ رَبَّهِ أَربَعينَ لَيلَةً وَقَالَ موسى لأخيهِ هارونَ اخلُفني في قَومي وَأَصلِح ولا تَتَّبع سَبِيلَ المُفسَدينِ(الأعراف:142).

هذه جملة الاخبارات التى وردت في القرآن والتي أَخبَر بها الأنبياء ولم تتحقق وقد جاء نظير ذلك في الروايات الاسلامية نذكر منها:

ما روي عن المسيح عيسى بن مريم أنَّه مرّ بقوم مُجلَبين. فقال: ما لهؤلاء؟ قيل يا روح الله انَّ فلانة بنت فلانة تُهدى الى فلان بن فلان في ليلتها هذه.

قال: يجلبون اليوم ويبكون غداً. فقال قائل منهم: ولِمَ يا رسول الله؟

قال: لأن صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه. . . فلما أصبحوا جاءوا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شيء.

فقالوا: يا روح الله انَّ التي أخبرتنا أمس أنها ميتة لم تمت. فقال عيسى: يفعل الله ما يشاء فاذهبوا بنا إليها. . حتى قرعوا الباب فخرج زوجها فقال له عيسى: استأذن لي على صاحبتك. فتخدرت ، فدخل عليها. فقال لها: ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت: كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته الى مثله. وانَّه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمري وأهلي بمشاغل ، فلما سمعت مقالته قمت متنكرة حتى نلته كما كنَّا ننيله.

ففي هذه اللحظة قال عيسى لها تنحي عن مجلسك. فاذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاض على ذنبه.

فقال عليه السَّلام: بما صنعتِ صرف عنكِ هذا"21.

ومنها ما روي أنَّه مرَّ يهودي بالنبي فقال: السام عليك ، فقال النبي له: وعليك.

فقال أصحابه: انما سَلَّم عليك بالموت ، فقال الموت عليك!

فقال النبي: وكذلك رددت.

ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: انَّ هذا اليهودي يعضه أسود في فقاه فيقتله.

فذهب اليهودي فاحتطب حطباً فاحتمله ثم لم يلبث أَن انصرف. فقال له: ضعه ، فوضع الحطب: فاذا أَسود في جوف الحطب عاض على عود. فقال صلى الله عليه وآله وسلم. يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملا إلاّ حطبي هذا فحملته فجئت به ، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين. فقال رسول الله: بها دفع الله عنه. وقال: ان الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإِنسان22.

وهناك نظائر لما مضى لا تخرج عن عدد الأصابع.

تبيين الحال في هذه الإخبارات الغيبية
يقع الكلام في هذه الملاحم والأخبار الغيبية تارة من جهة ان الأنبياء كيف علموا بهذا الأمر الموقوف ، ولم يعلموا بالأمر الموقوف عليه. وأُخرى أنَّ هذا الاخبار مع عدم الوقوع كيف لا يعد تكذيباً لقولهم؟

أما الأول ، فلا شك أَنَّ النبي إذا أخبر بشيء ثم حصل البداء في تحققه فلا بد أَن يستند في اخباره الى شيء يكون مصدراً لاخباره ومنشأ لاطلاعه. فيمكن أَن يكون المصدر اتصاله بعالم لوح المحووالاثبات ، فاطلع على المقدِّر ، ولم يطلع على كونه معلقاً على أمر غير واقع ، لعدم احاطة ذلك اللوح بجميع الاشياء.

كما أَنه يمكن أَن تتعلّق مشيئته تعالى باظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة داعية الى اظهاره ، فيلهم ويوحي إلى نبيه مع علمه سبحانه بأَنه يمحوه.

نعم ، من شملته العناية الالهية واتصلت نفسه الزكيه بعالم اللوح المحفوظ تنكشف عنده الواقعيات على ما هي عليه ، وان كان ذلك قليل كما يتفق ذلك لخاتم الأنبياء وبعض الأوصياء.

وعلى ضوء ذلك فالحكم الذي يُوحَى إلى الأنبياء ، تارة يكون ظاهراً في الاستمرار والدوام ، مع أَنه في الواقع له غاية وحَدَّ يعيّنه بخطاب آخر.

وأُخرى يكون ظاهراً في الجد مع أنَّه لا يكون جدياً واقعاً، بل لمجرد الاختبار والابتلاء.

وثالثة يوحى اليهم بالإخبار بوقوع عذاب لحكمة في هذا الإخبار ، ومع ذلك لا يقع.

هذه هي الجهات التى يمكن أَن تكون مصدراً لعلمه واطلاعه. والكل يرجع الى وقوفه على المقتضيات وعدم وقوفه على العلة التامة. فلأجل ذلك صح له أَن يخبر عن التقدير الأول لأجل وجود المقتضي، ولواطلع على العلة التامة لأخبر عن التقدير الثاني. ولا بعد في أن يُخفي تعالى على نبيه شرائط التقدير الأوّل وموانعه لأجل مصالح يعلمها الله سبحانه.

فقد كان هناك مصلحة في الاخبار عن تحقق ذبح اسماعيل ، ونزول العذاب على قوم يونس ، وكون الميقات ثلاثين يوماً، وأنَّ العروس واليهودي يقتلان. فللَّه سبحانه في إخباره واظهاره حكم ومصالح نقف على بعضها ولا نحيط بجملتها.

هذا كله حول مصدر علم النبي في إخباره.

وأما الثاني ، وهوأنَّ إخبار النبي بشيء وعدم وقوعه يعد في نظر الناس تكذبياً للنبي. فنقول: انَّ المغيبات التي وقع فيها البَدَاء انما توجب معرضية الأنبياء لوصمة الكذب والتقوّل بالخلاف اذا لم يكن هناك قرائن تدل على صدق مقالهم ، ولذلك نرى أن عيسى عليه السَّلام لما أخبر أصحابه بأن العروس ستهلك ، برهن على صدق مقاله بإراءة الأفعى تحت مجلسها كما أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم برهن على صدق إخباره بهلاك اليهودي بالأمر بوضع الحطب فاذا أَسود في جوف الحطب عاض على عود.

ونظيره قصة ابراهيم ، فإنّ في التفدية بذبح عظيم دلالة على صدق ما أَخبر به الخليل من الرؤيا. كما أنَّ الحال كذلك في قصة يونس حيث أخبر عن العذاب ، وقد رأى القوم طلائعه ، فقال لهم العالم: افزعوا الى الله فلعله يرحمكم ويرد العذاب عنكم ، فاخرجوا الى المفازة ، وتفرّقوا بين النساء والأولاد ، وبين سائر الحيوانات وأَولاده ، ثم ابكوا وادعوا ففعلوا فصرف عنهم العذاب23.

وبالجملة ، اذا كانت إخبارات النبي مقترنة بالقرائن الدالة على صدق إخباره ، وأنَّ الوقوع كان حتمياً قطعياً لولا فعل ما فعلوه ، لما عدّ ذلك تقولاً بالخلاف ، بل يعد من دلائل الرسالة.

وعلى ذلك فاخباراتهم الغيبية اما كانت على وجه التعليق في اللفظ ، كما في قصة يونس ، حيث روي أَنه قال لقومه: "إنَّ العذاب مصبحكم بعد ثلاث ان لم تتوبوا"24. وفي اللب ، كما اذا دلت القرائن الماضية على أَنَّ كلامه كان معلقاً على مشيئته سبحانه ، وكانت مشيئته سبحانه معلقة على عدم صدور أَمر يدفع العذاب.

وأنت اذا أحَطت بما ذكرنا من الأمور تقف على مدى صحة ما نقله الرازي عن سليمان بن جرير من أنَّ ائمة الرافضة وضعوا القول بالبداء لشيعتهم ، فإذا قالوا سيكون لهم أَمر وشوكة ثم لا يكون الأمر على ما أَخبرو ، قالو: بدا لله تعالى 25 !. وكأنَّ الرجل كان غافلا عن تلك المعارف العليا في الكتاب والسنة.

ونضيف أَخيراً بأَنَّ هذا النوع من الإخبارات التى تعد نتيجة للبَدَاء لا نفس البَدَاء ، لا تتجاوز في كلمات الأئمة عن مواضع أربعة، فكيف يدَّعي الرازي وضع ضابطة كلية؟!

*الإلهيات ، آية الله جعفر السبحاني ، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام. ج2 ، ص233-251
 

1- عقائد الصدوق ، المطبوع في ذيل شرح الباب الحادي عشر ، ص 73.
2- سيوافيك وجه إطلاق البداء على الله وأنَّه من مقولة المجاز ، كما في قوله سبحانه (وَيَمكُرونَ وَيَمكُرُ الله والله خَيرُ الماكِرينَ) تمثيلا لفعل الباري بفعل البشر.
3- تصحيح الأعتقاد ، باب معنى البَدَاء ، ص 25.
4-أوائل المقالات ، باب القول في البداء ، ص 53.
5- عدة الاصول ، ج 2 ، ص 29 ، وله كلام آخر في كتاب "الغيبة" ، ص 262 ـ 264 ، طبعة النجف يحذوفيه حذوما ذكره في العدةفليرجع اليه.
6- لاحظ مصابيح الانوار ، للسيد شُبَّر ، ج 1 ، أَجوبة موسى جار الله للامام شرف الدين ص 101 -103 هذا هوالذي تقول به الشيعة وتسميه بَداء ، وأما غيرهم فيقولون به حسب ما مرّ من الآيات والروايات ولا يسمونه بداء ، فالنزاع في ا لحقيقة إنما هوفي التسمية ، ولوعرف المخالف أنَّ تسمية فعل الله سبحانه بالبداء من باب المجاز والتوسع لما شهر سيوف النقد عليهم. وان أبى حتى الاطلاق التجوزي فعليه أن يتبع النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حيث أَطلق لفظ البداء عليه سبحانه بهذا المعنى المجازي الذي قلناه ، في حديث الأقرع والأبرص والأعمى:"بَدَا لله عَزَوَجَلّ اَن يَبتَلِيهُم" النهاية في غريب الحديث والأثر ، للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمد الجزري ، ج 1 ، ص 109.
7- مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين ، ص 107 و109 و119 ، طبعة محيي الدين عبدالحميد.
8-. نقله شيخنا الأكبر الطوسي في تفسيره ، التبيان ، ج 1 ، ص 13-14 ، طبعة النجف.
9- نقد المحصّل ، ص 421.
10- الامام الصادق ، لأبي زهرة ، ص 238.
11- بحار الانوار ، ج 4 ، ص 102 ، باب البداء ، الحديث 14 ، نقلا عن أمالي الطوسي.
12- المصدر السابق ، ص 119 ، الحديث 58.
13- المصدر السابق ، ص 95 ، الحديث 2.
14- اصول الكافي:1/ 71.
15- البحار ، ج 4 ، ص 116 ، الحديث 44. ولاحظ الأحاديث 45 ، 46 ، 47.
16- مفاتيح الغيب للرازي ، الأنعام ، آية 2.
17- الميزان ، ج 7 ، تفسير الانعام ، الثانية ، ص 9.
18-. لاحظ الدر المنثور ، ج 5 ، 280.
19- مجمع البيان ، ج 3 ، ص 135 ، و تفسير الطبري و تفسير الدر المنثور في تفسير الآية.
20- الدر المنثور ، ج 3 ، ص 115.
21- بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 94 ، ذكرنا الرواية بتلخيص.
22- بحار الانوار ، ج 4 ، ص 118.
23- مجمع البيان ، ج 3 ، ص 153.
24- مجمع البيان ، ج 3 ، ص 135.
25-. نقد المحصل ، للرازي ، ص 421.

2009-08-01